تتأثر السياسات الخارجية للدول، وبالتالي خِياراتها السياسية، بجملة التطورات الإقليمية والدولية الجارية.
ولعل درجة التأثر لها علاقة بالموقع الجغرافي للدولة، وبمدى انخراط هذه الدولة في الأحداث الجارية، وعلاقة كل ما سبق بالأمن الداخلي للبلاد، وهي عوامل تُشكّل -من بين أمور أخرى- محدداتٍ مهمة في السياسة الخارجية لأي دولة.
وانطلاقًا من هذا التصور، فإن تركيا تبدو الدولة الأكثر تأثرًا بالأزمة السورية، نظرًا للحدود الجغرافية الطويلة بين البلدين "أكثر من تسعمائة كيلومتر"، كذلك للتداخل الاجتماعي والعرقي والمائي على طرفي الحدود، كل ذلك ضمن واقع إقليمي مُعقّد، تتحكم فيه صراعات قديمة، ومشاريع إقليمية في إطار التنافس على الدور والنفوذ في المنطقة.
ولعل المتابع للسياسة التركية تجاه الأزمة السورية لا بد أن يرى أن مسار هذه الأزمة سار خلافًا لتوقعات السياسة التركية، إذ إن التقديرات التركية، التي كانت تقوم على أن قضية إسقاط الحكومة السورية قضية أكيدة، وأنها مسألة وقت لا أكثر، انطلاقًا مما جرى في تونس ومصر وليبيا، بدت خاطئة وغير دقيقة، ومن هذه النقطة بالذات بدأت الاستدارة التركية تجاه العالم العربي، كما حصل على مسار العلاقة التركية المصرية ومع دول الخليج العربي، واليوم مع سوريا.
الاستدارة التركية تجاه الأزمة السورية بدت واضحة من تصريحات كبار المسؤولين الأتراك، والتي تتحدث عن الاستعداد لطيّ صفحة العقد الماضي، وفتح صفحة جديدة بين البلدين، في ظل أولويات تركية تتعلق بالتخلص من أعباء اللاجئين السوريين في تركيا، ووضع نهاية للإدارة الذاتية الكردية في شرقي الفرات، بما يصب جميعه في صندوق الانتخابات الرئاسية التركية، المقررة صيف العام المقبل، وفي كل ما سبق تحمل الاستدارة التركية مجموعة رسائل، لعل أهمها:
1- أن تركيا بدأت تتخلّى تدريجيًّا عن البُعد الأيديولوجي في سياستها الخارجية، بعد أن جعلت من هذا البُعد لفترة طويلة محددًا لسياستها الخارجية بدلا من إقامة العلاقات مع دول العالم العربي على أساس المصالح المشتركة والقانون الدولي، وعليه قوبل التحول التركي بترحيب في العالم العربي.
2- أن الاستدارة التركية تجاه سوريا تحظى بدعم روسي مباشر وتأييد إقليمي، لا سيما إيران، شريك الدولتين في مسار أستانا، انطلاقًا من أن عودة العلاقات بين الجانبين ستسهم في الحد من الجانب العسكري للأزمة السورية، وتدفع بالأمور نحو توافقات وحلول سياسية، حيث من الواضح أن هذه الاستدارة تصب في صالح "مسار أستانا" على حساب "مسار جينيف".
3- أن هذه الاستدارة غير بعيدة عن تداعيات الأزمة الروسية-الأوكرانية، وفي هذا الإطار ينبغي النظر إلى مواقف موسكو وواشنطن إزاء ما يجري من تطورات على خط أنقرة-دمشق، فموسكو تدعم بقوة هذه الاستدارة، وتسعى جاهدة لعقد لقاء بين الرئيسين "أردوغان" و"الأسد" لفتح صفحة جديدة بينهما، فيما الولايات المتحدة تلتزم الصمت حتى الآن، ولعل الصمت الأمريكي هنا له علاقة بحسابات واشنطن إزاء دور تركيا وموقعها من الأزمة الأوكرانية، وحرصها -واشنطن- على عدم خسارة تركيا، التي ذهبت بعيدًا في عَلاقاتها بكل من موسكو وطهران خلال السنوات الماضية.
4- أن ضجيج الاستدارة التركية لتهيئة الداخل التركي لها، يقابله صمت دمشق حتى الآن، ولعل هذا الصمت تعبير عن الاستعداد للتفاوض مع أنقرة بعد وضع خريطة طريق لمسار العلاقات بينهما في المرحلة المقبلة، وما زيارة دوغو برينجك، رئيس حزب الوطن التركي، المعروف بعلاقته الجيدة مع الرئيس أردوغان، إلى دمشق في الأيام المقبلة إلا تعبير عن رغبة سوريا في التفاعل إيجابيًّا مع الاستدارة التركية، وقد تمهد نتائج هذه الزيارة ترتيب لقاءات سياسية بين الجانبين بعد اللقاءات الأمنية.
في الواقع، من الواضح أن مسار العلاقات التركية-السورية بدأ ينتقل من الصدام إلى البحث عن توافقات وتفاهمات رغم الصعاب والتحديات والعقبات، التي خلّفتها المرحلة السابقة، وإذا ما سارت الأمور في هذا الاتجاه فإن ذلك سيخلق متغيراتٍ كبيرة في السياسة التركية لصالح المسار الأوراسي، الذي تقوده روسيا، على حساب الخيار الأطلسي، الذي اختارته تركيا قبل أكثر من نصف قرن، وهو ما سيُلحق خسارة كبيرة بالاستراتيجية الأمريكية، التي تطلعت خلال العقود الماضية إلى تركيا بوصفها دولة تقوم بدور وظيفي باستراتيجية حلف الناتو في مواجهة روسيا.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة