لم تتوقف السلطات الأمنية والقضائية الأمريكية عن ملاحقة الرئيس السابق دونالد ترامب منذ مغادرته البيت الأبيض قبل 3 سنوات.
عشرات القضايا والتهم وجهت إليه حتى الآن، بعضها فشل والبعض الآخر قيد العمل، فيما تعد قائمة ثالثة لإعلانها لاحقا.. أما الهدف من كل ذلك فهو منعه من الترشح للرئاسة عام 2024.
لماذا كل هذه الخشية من عودة الرئيس السابق إلى السلطة مرة أخرى؟ ما الذي يحمله في جعبته ويقلق اليساريين في الولايات المتحدة لهذه الدرجة؟ هل يخيف "الدولة العميقة" لحد تجنيد كل إمكاناتها من أجل منعه من الوصول ثانية إلى البيت الأبيض؟ أم تراه عدوا حقيقيا للديمقراطية الأمريكية كما يصفه خصومه؟
يتميز ترامب بصعوبة "توجيهه" أو "قيادته" من خلف الستار، ولعل هذا ما زاد خصومه، وجمع ضده فرسان الدولة العميقة مع صقور الساسة من اليسار واليمين.
أما الساكن الحالي في البيت الأبيض فقط أظهرت مواقف عدة أمام الكاميرات أنه ليس حاضر الذهن دائما، كما تحدثت تقارير عن حقبته كامتداد لعهد الرئيس الأسبق باراك أوباما، خاصة فيما يتعلق بالسياسة الخارجية للولايات المتحدة.
الحرب الأوكرانية الروسية تمثل نقطة خلاف رئيسية بين ترامب والديمقراطيين، أو بينه وبين "الدولة العميقة" بتعبير أدق.
فلطالما رفض الرئيس السابق هذه الحرب بعقلية رجل الأعمال الذي يفضل جمع المال على إنفاقه، ولكن دوافعه لم تقنع خصومه، ولم تقدم بديلا لما تم التحضير له طوال الولاية الثانية لسلفه.
أراد الرئيس السابق أن يحجم علاقة الروس والأوروبيين، ولكن ليس عبر إشعال حرب في القارة العجوز.. تجنب ترامب هذا الخيار طوال سنوات حكمه، ودفع بكييف نحو التفاوض مع موسكو من أجل إيجاد حل سلمي للخلافات بينهما، ولكن حداثة عهده بالسياسة جعلته يظن أن مشيئته غيرت الخطط المرسومة.
يخطط ترامب لإنهاء الحرب في القارة العجوز سلميا، إن ظفر بالرئاسة مرة أخرى، ولكن مسعاه هذا يتعارض مع رغبة صقور السياسة الأمريكية بحرب طويلة الأجل، أو نزاع خامد مستمر، على غرار شبه الجزيرة الكورية، المهم ألا يفتح باب التعاون الاقتصادي بين الروس ودول الاتحاد الأوروبي مرة أخرى.
التحضير لأزمة في تايوان شبيهة بكارثة أوكرانيا لا تبدو سياسة جذابة لترامب أيضا، وذلك يزيد من حدة الخصومة بينه وبين القابضين على السلطة في واشنطن.
يدرك الرئيس السابق خطورة الصين، ويرغب بتقليم أظافرها لأكبر حد ممكن، ولكن من خلال العقوبات والإجراءات التي تضعف اقتصادها وإمكاناتها.
إشعال حرب في بحر الصين لن تكون خطوة يتبناها ترامب إذا عاد للبيت الأبيض، وتلك الضبابية التي يمارسها الديمقراطيون اليوم بشأن هذا والعديد من الملفات الأخرى لن تدوم بذات الزخم إذا ما انتقلت إدارة البيت الأبيض إلى الجمهوريين بزعامة الرئيس السابق، أي أن السياسة الخارجية الأمريكية سوف تتغير.
المقارنة التاريخية تقول إن استراتيجيات الولايات المتحدة الداخلية والخارجية تتجاوز الخلفية الحزبية لإدارات البيت الأبيض، ولكن ذلك لا يمنع من استثناءات أحدثت فارقا في حياة الأمريكيين أو واقع مناطق ودول عديدة حول العالم، الأمثلة على ذلك حاضرة بكثرة، ولا تبعد إلا سفر سنوات قليلة عن يومنا هذا.
على سبيل المثال، كل رؤساء أمريكا يفضلون إسرائيل على بقية الدول في الشرق الأوسط، ولكن بعضهم لا يحرك ساكنا إزاء علاقاتها مع جوارها، فيما آخرون مثل ترامب يحولون هذا التفضيل إلى اتفاقيات سلام بين تل أبيب ومحيطها العربي.
كما نفذ ترامب وعدا قديما تخلف عنه أسلافه بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس المحتلة، واعترف بالجولان السوري منطقة إسرائيلية رغما عن المجتمع الدولي.
العلاقة مع إيران أيضا مثال يستدعى عند ذكر التباينات بين الإدارات الأمريكية، فما أنجزه أوباما في الاتفاق النووي مع طهران ألغاه ترامب بجرة قلم، والإرهاب الذي مارسه القائد السابق لفيلق القدس الإيراني قاسم سليماني في المنطقة لأعوام طويلة على مرأى ومسمع الديمقراطيين، انتهى عبر ترامب الجمهوري.
في الملفات الداخلية، ثمة فارق واضح بين ترامب والديمقراطيين في التعاطي مع أصحاب الميول الجنسية المختلفة، حيث يمثل الرئيس السابق التيار المحافظ الذي لا يفضل الترويج لمثل هذه التوجهات، ولا يتبنى سياسات خارجية تجبر دولا وحكومات على توسيع حضور وثقافة حملة أعلام قوس قزح في الحياة العامة.
دعم الاقتصاد كان ولا يزال هو الآخر محط خلاف بين الرئيس السابق وخصومه، فترامب لا يهتم إن ألحق ضررا بحلفاء وأصدقاء أمريكا حول العالم خلال جمعه للأموال وزيادته للاستثمارات في بلاده، ولا يهمه أيضا إن كان ذلك على حساب الجهود الدولية لمعالجة مشكلات العالم البيئية التي لا يعترف بها أصلا.
في النقطتين السابقتين قد يفضل كثيرون الديمقراطيين على الجمهوريين بزعامة ترامب، سواء داخل الولايات المتحدة أو خارجها. ولكن رغبة هؤلاء بإبقاء الرئيس السابق خارج مضمار المنافسة على البيت الأبيض في استحقاق العام المقبل لن تتحقق بسهولة مع أكثر من 70 مليون مؤيد له في الشارع الأمريكي.
لقد أخطأ ترامب في رد فعله إزاء نتائج انتخابات الرئاسة الماضية، وهذا الخطأ هو أقوى الحجج التي يمكن أن يستغلها خصومه سياسيا وشعبيا، لمنعه من العودة إلى البيت الأبيض ثانية، هذا ما تقوله ألسنة الإعلام حتى الآن نقلا عن المصادر القضائية، فإما أن يدان على ذلك خلال أشهر وإما أن ينقلب السحر على الساحر.
يقول الرئيس الـ٢٦ للولايات المتحدة فرانكلين روزفلت "إن الرذيلة النموذجية للسياسة الأمريكية هي تجنّب قول شيء حقيقي بشأن القضايا الحقيقية"، هذا ما يمارسه الساسة في واشنطن اليوم تحت غطاء محاكمة ترامب، وهذا ما تخفيه فعليا الخشية من عودته إذا ما بقيت ملفات كثيرة معلقة حتى انتخابات ٢٠٢٤.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة