أفقدت الحربُ وتفاعلاتُها الدولةَ السوريةَ كثيرا من حضورها وتأثيرها وأدوارها على الصعد المحلية والعربية والإقليمية والدولية، وتراجعت عن مواقعها الفاعلة والمؤثرة إلى خطوط دفاعية، درءا للأضرار التي تطاردها على خلفية الصراع.
أولى القرارات التي أثّرت بها كانت عربية، عندما تم تعليق عضويتها في الجامعة العربية نوفمبر/تشرين الثاني 2011، فشكّل ذلك القرار عامل تحريض إضافياً للآخرين من الخارج كي يزيدوا ضغوطهم على سوريا وعلى حضورها وعلى دورها، وسهّل أيضا على كثير من اللاعبين الخارجيين رفع مستوى الابتزازات والتهديدات لها وعزلها.
اليوم يبرز سؤال جوهري حول خياراتها السياسية المتاحة عربيا وإقليميا ودوليا، والأهم داخليا في ظل تحديات متعددة الصنوف، منها الأمنية والسياسية والاقتصادية غير المسبوقة، حيث التدهور المستمر لقيمة العملة المحلية وانعكاس ذلك على حياة الغالبية العظمى من السوريين ومعيشتهم واحتياجاتهم اليومية للحد الأدنى من مقومات الحياة.
تلازم الاقتصادي بالسياسي أمر بديهي، وتحديد أسبقية أحدهما على الآخر تكاد تكون فكرة طوباوية في الملف السوري، فالاقتصاد معطَّل ويُستنزف بفعل السياسة، والثروة النفطية والزراعية والحيوانية التي كانت تؤمن دخلا قوميا للبلاد والعباد لا تزال خارج سيطرة الدولة السورية، وتبعات سنوات الحرب أدت إلى شلل القطاعات السياحية والتنموية والتجارية، أما التحديات الخارجية فتبدأ من الحصار ولا تنتهي بالعقوبات متعددة السياقات.
أما قطار السياسة فهو مكبل بسبب تحديات واقعية ماثلة للعيان مصدرها داخلي متماهٍ مع قوى إقليمية وأخرى دولية.
هل نضجت الظروف تحت ضغط المصالح لإنتاج تسوية شاملة في سوريا، أم أن الحديث عنها لا يزال في خانة الأمنيات؟ وما البديل إذن؟
في سباق الزمن السوري العربي المشترك للحد من التدهور الأمني والاقتصادي والمتبوع حتما بالتدهور السياسي والمجتمعي، تبدو الاحتمالات عديدة، لكن أكثرها منطقية ربما تكون تسويات ثنائية سواء في الداخل، أو على الصعيدين العربي من طرف والإقليمي الدولي من طرف آخر كمرحلة أولى لتسويات أشمل تطال القوى الخارجية المعنية بسوريا، خاصة بعد أن أعلن العرب خيارهم بالوقوف إلى جانب سوريا دولة وشعبا.
المكاشفة قد تكون السبيل الأكثر نجاعة لتشخيص أوجاع سوريا، كونها الأسلوب الأمثل لاقتراح طريق العلاج وأساليبه وأدواته، فدمشق لن تقبل باستمرار الوجود التركي بسماته العسكرية والأمنية والإدارية والاقتصادية في المناطق التي تسيطر عليها في الشمال، وهي تدرك أن تركيا لا يمكنها تحمل أعباء استمرار هذا الوجود المتزايد وتوفير احتياجاته ومتطلباته الاقتصادية واللوجستية لسببين، الأول مرتبط عضويا بوجود الدولة السورية الرافضة لأي شكل من أشكال هذه الهيمنة، خاصة بعد كسر العزلة العربية عن سوريا، ووجود مؤيدين وداعمين للدول السورية بالسيادة الكاملة على أراضيها وفقا للقوانين والأعراف الدولية.
أما السبب الثاني فمرتبط بالصعوبات الاقتصادية التي تعانيها تركيا والنزيف المتواصل لقيمة عملتها وارتفاع التضخم في البلاد، وارتباطا بذلك الملف يبدو حل أزمة اللاجئين مدخلا ملائما على هذا الدرب الشائك والصعب، بعد أن برزت سياقات عملية سورية لبنانية، وسورية أردنية، فلبنان أعلن أن الجانب السوري وافق على استقبال 180 ألف لاجئ سوري بعد إعداد ترتيبات عودتهم بين البلدين، في حين كشف وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي أن الخطوة المتفق عليها مع دمشق بشأن عودة اللاجئين من الأردن ستكون تجريبية بإعادة طوعية لألف لاجئ ومن ثم تتوالى عودة الباقين تدريجيا، أما قضية اللاجئين في تركيا فلها حيثيات وتداعيات مغايرة لسابقاتها، ولكل طرف، سوري أو تركي، حساباته بشأنها، ومع أنهما يلتقيان عند إنسانية القضية وضرورة عدم تسييسها، لكنهما يختلفان حول آليات حلها.
وكذلك الأمر في الملف الكردي، إذ يبدو التناقض صارخا بين أنقرة ودمشق، فبينما تعلي تركيا صوتها واشتراطها بوجوب استئصال ما تعتبره تهديدا من جانب "قسد" كمدخل للتطبيع مع سوريا، تتمسك دمشق بحساباتها الداخلية انطلاقا من ثوابتها بضرورة الانسحاب التركي من كامل الأراضي السورية، أو على الأقل التعهد بالانسحاب تدريجيا بضمانة روسية، وتتعاطى وتتعامل مع القوى الكردية على أنها إحدى مكونات المجتمع السوري، أي كما لو أن الدولة السورية تعتبر أمرها شأنا داخليا وحسب.
ثمة حقائق على الأرض تقيد حركة دمشق باتجاه "قسد" أبرزها الوجود الأمريكي، وهذا القيد ينسحب على بقية اللاعبين الآخرين كروسيا وتركيا، لكن التواصل المتقطع في حده الأدنى بين قادة قسد والدولة السورية يمنح الأخيرة ميزة إضافية تجعلها تمهر حسابات غدها المأمول بتوقيع محلي أمام الطرف المناهض لهما.
هل التعاون السوري التركي ممكن في هذه الملفات؟ ما تشهده أروقة الدبلوماسية وكواليسها من حراك حثيث بين العواصم المعنية بالشأن السوري تتضح في نبرة السجال عالي المستوى بين الجانبين السوري والتركي، لكن ذلك لا يحجب حقيقة أن طريق سوريا نحو التعافي التام دونه الكثير من التحديات الداخلية والخارجية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة