لإنقاذ نفسها من التدمير.. «إسرائيل الجديدة» هي الحل
قد يظن البعض أن التهديدات الخارجية والحروب متعددة الجبهات وحدها ما تواجه إسرائيل، إلا أن هناك خطرا أكبر يهدد وجودها وقد يؤدي لدمارها ما لم تدرك ذلك لكنه من الداخل.
هذا الخطر يكمن في نظامها القانوني والدستوري، الذي يعاني حالة فوضى، عواقب عدم إصلاحها ستكون وخيمة، ولن تقود في النهاية إلى وقف الحرب وبناء سلام دائم في المنطقة، وفق تحليل لـ«فورين أفيرز» الأمريكية.
وينبئ المسار الإسرائيلي الحالي من الانخراط في الغزو والضم وعدم وجود حدود ثابتة ومعارضة الدولة الفلسطينية، الذي يخالف القانون الدولي، إضافة إلى التقلبات في تطبيق القانون والعقاب وفق الهوية، وتحدي الحكومة للسلطة القضائية، بـ"هاوية قد تؤدي لتدمير إسرائيل كدولة ديمقراطية".
هذه المعركة التي بدأتها حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مبكرا، في 4 يناير/كانون الثاني 2023، بعد 6 أيام من تنصيبها، بسعيها لتنفيذ ما تسميه "إصلاحات" في الجهاز القضائي، فيما تصفها المعارضة بأنها محاولة لـ"الانقلاب على الديمقراطية"، ما أثار حالة واسعة من الجدل والاحتجاجات العارمة في إسرائيل.
وقد صُممت هذه الخطة للسماح للائتلاف الحاكم بشغل المحاكم وغيرها من المناصب المدنية الرئيسية بقضاة وموالين سياسيين موالين أيديولوجياً، في إطار جهود شاملة تبذلها حكومة نتنياهو لإضعاف استقلال القضاء، وفق مراقبين.
تهديد المؤسسات الديمقراطية
وتواجه المؤسسات الديمقراطية في إسرائيل في الوقت الراهن تهديدا أكثر من أي وقت مضى في تاريخها، ويبدو أن عددا متزايدا من الإسرائيليين يدركون هذا، محاولين الاستفادة من حركة الاحتجاج غير العادية التي انطلقت في عام 2023 مع بدء تلك «الإصلاحات»، معتبرين أنها فرصة لوضع أسس جديدة وديمقراطية حقيقية عندما تنتهي الحرب.
وتحتاج إسرائيل إلى حدود ثابتة، وحكومة تلتزم بالديمقراطية الكاملة، ونظام قانوني يعكس تقرير المصير اليهودي والالتزام الحقيقي بالمساواة لجميع المواطنين، وتبني قانون كامل للحقوق.
هذه الأمور التي يستطيع كاتبو الدستور المستقبلي أن يحلونها عبر الاستعانة بالعديد من المسودات لمثل هذا المفهوم، الذي طوره المشرعون الإسرائيليون وشخصيات المجتمع المدني على مدى عقود عديدة ولكن لم يتم سنه قط.
والأمر الأكثر أهمية الحقوق الراسخة التي لا تزال مفقودة من القوانين الأساسية لإسرائيل، مثل حرية التعبير، وحرية الدين، والإجراءات القانونية الواجبة، ولابد من تشريع هذه الحقوق العالمية رسمياً لجميع المواطنين الإسرائيليين.
كما يتعين على الدستور الإسرائيلي أيضاً أن يواجه المهمة الحساسة المتمثلة في معالجة الهوية الجماعية للمواطنين الفلسطينيين، الذين يشكلون أكبر أقلية غير يهودية في البلاد، من خلال الاعتراف الثقافي أو اللغوي أو حتى الوطني دون التخلي عن الطابع اليهودي للدولة.
ضغوط داخلية
ومنذ بدء الحرب في غزة كانت هناك علامات متزايدة على أن مؤسسات الدولة الإسرائيلية تعاني ضغوطا شديدة، فقد تجاهل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو التحذيرات المتكررة من النائب العام الإسرائيلي بأن تصرفات حكومته انتهكت القانون، ورداً على ذلك دعا وزراء الحكومة إلى إقالة النائب العام.
وعلى مدى أكثر من عام أوقفت الحكومة عشرات التعيينات القضائية، بما في ذلك في المحكمة العليا الإسرائيلية؛ وفي سبتمبر/أيلول، صعّد وزير العدل في حكومة نتنياهو جهوده لإعاقة تعيين رئيس قضاة المحكمة العليا، حتى تحدى أمراً قضائياً يقضي بشغل المنصب.
كما أن تطبيق القانون أصبح متقلباً للغاية، ورغم تزايد معدلات القتل بين المجتمع العربي في إسرائيل إلى أكثر من الضعف في ظل الحكومة الحالية، لم يتم حل سوى 17% من تلك الجرائم، في عام 2023.
وفي الضفة الغربية رغم الهجمات المتزايدة التي يشنها المستوطنون ضد الفلسطينيين، تحتجز الدولة الآن ربع عدد المشتبه بهم اليهود فقط في عام 2022، وفق إحصائيات غير رسمية، وقد تجاهل الجيش الإسرائيلي -المسؤول عن إنفاذ القانون في الأراضي المحتلة- أعمال العنف أو حتى شارك فيها.
وحول الافتقار للمساواة والحريات المدنية، سعت الحكومة إلى إضفاء الطابع المؤسسي على مكانة أعلى للمواطنين اليهود وتعزيز نفوذ الدين اليهودي في الحياة العامة والخاصة، وربما كان الهدف الأهم من ذلك كله هو منح الحكومة سلطة غير مقيدة لتوسيع السيادة ــ وهو تعبير ملطف عن الضم ــ على الضفة الغربية، وهو هدف طويل الأمد لليمين المتطرف في إسرائيل.
وعندما بدأ الإسرائيليون في الاحتجاج على الإصلاح القضائي في يناير/كانون الثاني 2023، أصيبوا بالذهول من خطط الحكومة المتطرفة والاستيلاء الصارخ على السلطة.
لكنهم صُدموا على الأقل عندما أدركوا أن الضوابط والتوازنات المؤسسية في إسرائيل كانت ضعيفة للغاية، أو حتى غائبة، وهي مشكلة تنبع مباشرة من الأسس الديمقراطية غير المكتملة للبلاد. وأهمها الافتقار إلى الدستور.
«بلا دستور»
وعلى الرغم من المحاولات المتكررة منذ تأسيس البلاد لتبني دستور رسمي يحدد توازن القوى وقانون كامل للحقوق يضمن حقوق الإنسان الأساسية والحريات المدنية والمساواة بين جميع المواطنين، إلا أن تلك الجهود دائما ما كانت تبوء بالفشل.
لكن إسرائيل لم تكتف بذلك، بل اعتمدت على التشريعات الجزئية، وأحكام المحاكم، والترتيبات الخاصة التي تطورت من خلال العرف أو اللجان.
ولا تمتلك إسرائيل سوى التشريعات الأكثر هشاشة في مجال حقوق الإنسان، والتي ترسخت في قوانين مثيرة للجدل صدرت في أوائل التسعينيات.
وفي عام 2018، منح قانون مثير للجدل اليهود وحدهم الحق في تقرير المصير في إسرائيل. وعلى النقيض من أي ديمقراطية أخرى في العالم تقريبا، فإن العديد من حدود البلاد ليست محددة بشكل ملموس. كما تحتفظ إسرائيل بالسيطرة على ملايين الفلسطينيين الذين لا يتمتعون إلا بالقليل من الحقوق الأساسية.
وعلى مدى عقود من الزمان، أدرك المشرعون الإسرائيليون المختلفون ــ إلى جانب أجيال من علماء القانون ــ العيوب الجوهرية في الأسس الديمقراطية لإسرائيل وسعوا إلى معالجتها من خلال عملية دستورية.
كما تم الاعتراف منذ فترة طويلة بأن إسرائيل تواجه أزمة شرعية متنامية نتيجة لاحتلالها للأراضي الفلسطينية وسيطرتها على عدد كبير من السكان غير المواطنين، وهي السياسات التي قضت محكمة العدل الدولية بأنها غير قانونية.
واليوم، تتفاقم المشكلة بسبب التكلفة البشرية المدمرة لحرب إسرائيل في غزة. ولكن حتى الآن، يميل الإسرائيليون إلى التعامل مع هاتين المسألتين ــ افتقار البلاد إلى النظام الدستوري واحتلالها العسكري المستمر للشعب والأراضي الفلسطينية ــ باعتبارهما ظاهرتين منفصلتين تماما.
والواقع أنهما لا يمكن فصلهما: ذلك أن الأسس الديمقراطية الضعيفة أو المفقودة التي تقوم عليها إسرائيل هي التي مكنت الإدارات الإسرائيلية المتعاقبة من مواصلة الاحتلال وتوسيعه على نحو مستمر.
وعلى مدار عام رهيب من الحرب، حث العديد من المراقبين إسرائيل على الإعلان عن الغاية النهائية التي تسعى إلى تحقيقها في الصراع وكيف سيتمكن الفلسطينيون من حكم أنفسهم في المستقبل.
وإذا كانت إسرائيل راغبة في تجنب إعادة احتلال غزة على المدى الطويل ومواصلة العنف في الضفة الغربية، فسوف تحتاج إلى استراتيجية شاملة للحكم الذاتي الفلسطيني الموحد في كل من المنطقتين، أو إقامة دولة فلسطينية في أحسن الأحوال.
ومن ثم يتعين على إسرائيل أن تعمل من أجل إنقاذ نفسها من التدمير.. «إسرائيل الجديدة» هي الحل.