نيران عقوبات الغرب.. إصابة مباشرة تقود الاقتصاد العالمي لركود وشيك
تعتبر الحرب الروسية الأوكرانية في عام 2022 ليست مجرد حدث جيوسياسي ضخم، ولكنها أيضًا نقطة تحول جيو-اقتصادية.
فالعقوبات التي فرضها الغرب ضد روسيا هي أشد إجراءات تم فرضها على الإطلاق ضد دولة بحجم روسيا وقوتها وتلحق الضرر بالاقتصاد الدولي ككل وقد تؤدي به إلى مزالق الركود بحسب ما ذكر تقرير صادر عن مجلة فورن بوليسي.
ففي غضون أقل من 3 أسابيع، قامت الولايات المتحدة وحلفاؤها بعزل البنوك الروسية الكبرى عن النظام المالي العالمي؛ مع منع تصدير المكونات عالية التقنية بالاتفاق مع حلفائها الآسيويين؛ كما استولت على الأصول الخارجية لمئات من الأثرياء الروس؛ بجانب إلغاء المعاهدات التجارية مع موسكو.
وأيضا فإن شركات الطيران الروسية محظورة من المجال الجوي لشمال الأطلسي، مع وجود قيود في مبيعات النفط الروسي إلى الولايات المتحدة والمملكة المتحدة؛ فيما منعت كل الاستثمارات الأجنبية في الاقتصاد الروسي من ولايتها القضائية؛ وجمدت نحو 403 مليارات دولار من أصل 630 مليار دولار من الأصول الأجنبية للبنك المركزي الروسي. ليتم ما يعرف بعملية فصل للاقتصاد الحادي عشر الأكبر في العالم عن عولمة القرن الحادي والعشرين.
تساؤل محير
ولكن السؤال الذي يحير الكثير الآن.. هو كيف ستنتهي هذه الإجراءات التاريخية؟.. وهل ستنجح العقوبات الاقتصادية في تحقيق أهدافها؟
فكثيرًا ما يفترض صانعو السياسة الغربيون أن الإخفاقات تنبع من نقاط ضعف في تصميم العقوبات، ولكن في الواقع الأسباب قد تكون أعمق من هذا، فقد تعاني العقوبات من ثغرات، أو الافتقار إلى الإرادة السياسية لتنفيذها، أو عدم كفاية الاتفاق الدبلوماسي فيما يتعلق بالإنفاذ.
فالعقوبات الغربية الآن تواجه مشكلة من نوع مختلف، فهي يمكن أن تفشل ليس بسبب ضعفها ولكن بسبب قوتها الهائلة التي لا يمكن التنبؤ بها. فبعد أن اعتاد صانعو السياسة الغربيون على استخدام العقوبات ضد البلدان الأصغر بتكلفة منخفضة، فإن لديهم خبرة وفهمًا محدودًا فقط لتأثيرات الإجراءات الصارمة ضد اقتصاد رئيسي مترابط عالميًا.
فمع الهشاشة الحالية في الهيكل الاقتصادي والمالي للعالم فمن المؤكد أن مثل هذه العقوبات لديها القدرة على التسبب في تداعيات سياسية ومادية خطيرة.
صدمة حقيقية
ويمكن رؤية مدى شدة العقوبات الحالية ضد روسيا من خلال آثارها في جميع أنحاء العالم. ولعل الصدمة المباشرة ستكون للاقتصاد الروسي حيث يتوقع الاقتصاديون أن ينكمش الناتج المحلي الإجمالي الروسي بنسبة 9-15 في المائة على الأقل هذا العام فيما انخفض الروبل بأكثر من الثلث منذ بداية يناير/كانون الثاني.
وتجري الآن هجرة جماعية للمهنيين الروس المهرة، في حين تراجعت القدرة على استيراد السلع الاستهلاكية والتكنولوجيا القيمة بشكل كبير. وكما قال عالم السياسة الروسي إيليا ماتفيف، "أُلقيت 30 عامًا من التنمية الاقتصادية في سلة المهملات."
تجاوز روسيا
ولكن المشكلة الآن أن تداعيات وآثار العقوبات الغربية تتجاوز روسيا نفسها.
ويرصد تقرير مجلة فورن بوليسي ما لا يقل عن أربعة أنواع مختلفة من التأثيرات الأوسع نطاقًا وهي الآثار غير المباشرة إلى البلدان والأسواق المجاورة ؛ آثار مضاعفة من خلال سحب الاستثمارات من القطاع الخاص ؛ آثار التصعيد في شكل ردود روسية ؛ والآثار النظامية على الاقتصاد العالمي.
الأسواق المجاورة
تسببت الآثار غير المباشرة بالفعل في حدوث اضطرابات في أسواق السلع الأساسية الدولية. واندلع ذعر عام بين التجار بعد حزمة العقوبات الغربية الثانية - بما في ذلك قطع SWIFT وتجميد احتياطيات البنك المركزي والتي تم الإعلان عنها في 26 فبراير/شباط الماضي.
ولأن الحرب أغلقت الموانئ الأوكرانية مع تجنب الشركات الدولية صادرات السلع الروسية، يلوح الآن نقص في الحبوب والمعادن في الأفق على الاقتصاد العالمي. فعلى الرغم من انخفاض أسعار النفط منذ ذلك الحين تحسباً لإنتاج إضافي من المنتجين الخليجيين، فإن صدمة أسعار الطاقة والسلع في جميع المجالات ستدفع التضخم العالمي إلى الأعلى. وبالفعل تواجه البلدان الأفريقية والآسيوية التي تعتمد على واردات الغذاء والطاقة صعوبات جدية.
كما أصبحت اقتصادات آسيا الوسطى عالقة في صدمة العقوبات، فيما ترتبط الدول السوفيتية السابقة ارتباطًا وثيقًا بالاقتصاد الروسي من خلال التجارة حيث تسبب انهيار الروبل في ضائقة مالية خطيرة في المنطقة.
وفرضت كازاخستان ضوابط على الصرف بعد أن تراجعت عملتها التنغي بنسبة 20 في المائة في أعقاب العقوبات الغربية ضد موسكو ؛ وشهدت عملة طاجيكستان أمرا مماثلًا في قيمتها.
الشركات الدولية
وكان لحزم العقوبات الرسمية تأثير محفز على الشركات الدولية العاملة في مجالات مختلفة بروسيا. فبين عشية وضحاها تقريبًا ، أدت العزلة الوشيكة لروسيا لبدء رحلة رحيل ضخمة لتلك الشركات فيما يرقى إلى مقاطعة القطاع الخاص الواسعة لروسيا.
كما تسبب التراجع التجاري بسبب هجرة تلك الشركات على تعميق الصدمة الاقتصادية لروسيا من خلال مضاعفة الآثار الاقتصادية السلبية للعقوبات الرسمية المفروضة على الدولة.
من جانبها، ردت الحكومة الروسية على العقوبات بعدة طرق. فقد اتخذت سياسات طارئة لحماية أرباح النقد الأجنبي ودعم الروبل. وبينما ظلت البورصة مغلقة ، فإن أصول العديد من الشركات الغربية التي غادرت قد تواجه مصادرة قريبًا.
كما فرضت القيود الروسية على صادرات الأسمدة في أوائل فبراير / شباط ضغطًا بالفعل على إنتاج الغذاء العالمي.
ويمكن لروسيا الانتقام من خلال تقييد صادرات المعادن المهمة مثل النيكل والبلاديوم والياقوت الصناعي والتي تعتبر مدخلات حاسمة لإنتاج البطاريات الكهربائية والمحولات الحفازة والهواتف والرقائق الدقيقة.
وإذا استمرت الحرب الاقتصادية بين الغرب وروسيا حتى عام 2022 بهذه الشدة ، فمن المحتمل جدًا أن ينزلق العالم إلى ركود بفعل العقوبات.
ويتساءل البعض عن سبب الآثار الاقتصادية الواسعة على الاقتصاد العالمي من جراء تلك العقوبات وهو أمر لم يحدث من قبل، فقد قام صانعو السياسة في الولايات المتحدة عادةً بفرض عقوبات على اقتصادات كانت متواضعة الحجم بما يكفي لاحتواء أي آثار سلبية كبيرة حيث كانت درجة الاندماج في الاقتصاد العالمي لكوريا الشمالية وسوريا وفنزويلا وميانمار وبيلاروسيا متواضعة نسبيًا وذات بعد واحد.
فالإجابة هنا تكمن في عنصرين أساسيين: الأول هو أن العقوبات أوسع نطاقا وفرضت على اقتصاد أكبر حجما وأكثر نفوذا في الاقتصاد العالمي. وتدرك إدارة بايدن هذه المشكلة، لكن أفعالها حتى الآن غير كافية لتضيق آثار العقوبات.
وبالفعل حاولت واشنطن تقليص الضغوط في سوق النفط من خلال مصالحة جزئية مع إيران وفنزويلا، لكن هذا غير كافي لمواجهة التحدي الذي تفرضه العقوبات الروسية، والتي تؤدي آثارها إلى تفاقم المشاكل الاقتصادية الموجودة بالفعل من جراء مشاكل سابقة مثل آثار جائحة كورونا ومشاكل سلاسل الإمداد.
ولا تزال مشكلة إدارة تداعيات الحرب الاقتصادية أكبر في أوروبا نظرا لأن الاتحاد الأوروبي لديه علاقات تجارية أقوى بكثير مع روسيا. كما أنه نتيجة لطبيعة الاقتصاد في منطقة اليورو والذي تشكل على مدار العقدين الماضيين فأن استراتيجيات معظم الاقتصادات في المنطقة تعتمد بشكل كبير على التجارة وتركز على الصادرات ويعد هيكل غير قادر على فرض عقوبات طويلة الأمد للحد من التجارة.
ورغم المحاولات الأوروبية لامتصاص آثار العقوبات من خلال زيادة الاستثمار في الطاقة المتجددة على مستوى الاتحاد الأوروبي وتوسيع الرقابة العامة في قطاع الطاقة، لكن هناك أيضًا حاجة ملحة للقيام بمزيد من التدابير من أجل مواجهة ارتفاع أسعار السلع الاستهلاكية وتشجيع الأسواق المحلية.
ثم هناك عواقب العقوبات التي تسببها على الاقتصاد العالمي ككل. لذلك من الضروري لمجموعة الدول السبع والاتحاد الأوروبي وشركاء الولايات المتحدة الآسيويين إطلاق إجراءات جريئة ومنسقة لتحقيق الاستقرار في الأسواق العالمية.
منح سخية
ويمكن القيام بذلك من خلال الاستثمار المستهدف لإزالة اختناقات العرض، والمنح والقروض الدولية السخية للبلدان النامية التي تكافح من أجل تأمين إمدادات كافية من الغذاء والطاقة، والتمويل الحكومي الواسع النطاق لقدرات الطاقة المتجددة.
كما سيتعين عليها أن تنطوي على إعانات، وربما تقنين ومراقبة الأسعار، لحماية أفقر الناس من الآثار المدمرة لارتفاع أسعار المواد الغذائية والطاقة والسلع الأساسية.
ويعتبر التقرير أن مثل تلك المنح والقرارات هو الثمن الذي يجب دفعه نتيجة انخراط الغرب في حرب اقتصادية.
وأضاف أن إلحاق ضرر مادي بهذا الحجم ضد روسيا لا يمكن ملاحقته ببساطة بدون تحول دولي في صنع السياسات يوفر الدعم الاقتصادي للمتضررين من العقوبات، محذرا من أنه إذا لم تتم حماية الرفاهية المادية للأسر، فسوف ينهار الدعم السياسي للعقوبات بمرور الوقت.
ويرى التقرير أن صانعو السياسة الغربيون عليهم أن يقرروا ما إذا كانوا سيؤيدون العقوبات ضد روسيا بقوتهم الحالية أو سيفرضون مزيدًا من العقوبات الاقتصادية على بوتين.
وأوضح أنه إذا كان الهدف من العقوبات هو ممارسة أقصى قدر من الضغط على روسيا مع الحد الأدنى من الاضطراب في اقتصاداتها - وبالتالي وجود خطر يصعب التحكم فيه - فقد تكون مستويات الضغط الحالية هي أقصى ما هو ممكن الآن.
ونوه التقرير إلى أنه في الوقت الحالي، سيتطلب مجرد الإبقاء على العقوبات الحالية سياسات تعويضية نشطة سواء للدول المتضررة أو لأفراد المجتمع الغربي المتضرر من العقوبات.
وبغض النظر عن مدى قوة وتبرير عزم الغرب على وقف عدوان بوتين، يجب على صانعي السياسة قبول الحقيقة المادية التي مفادها أن هجومًا اقتصاديًا شاملاً سيؤدي إلى ضغوط جديدة كبيرة في الاقتصاد العالمي.