التخلص من التضخم ليس نهاية المتاعب.. العالم بصدد معضلة اقتصادية ثلاثية
وسط احتفاء دولي بقرب الانتصار على موجات التصخم، تحدث تحليل نشرته مجلة فورين بوليسي عن مأزق ثلاثي يواجه الحكومات الآن في ظل وضع اقتصادي وتحديات محلية وعالمية كبيرة.
فمع ارتفاع الديون العامة والعجز إلى مستويات مثيرة للقلق، وسط تراجع النمو العالمي، يشبه وضع الاقتصاد العالمي ما حدث في أوائل الثمانينيات، عندما احتلت التحديات المالية مركز الصدارة بعد فترة من التركيز على التضخم والسياسة النقدية.
لكن تقرير نشرته مجلة فورين بوليسي اعتبر أن الوضع الآن لا يزال مختلفا إلى حد ما، فالتحديات العالمية المتزايدة والأكبر مثل تغير المناخ، وشيخوخة السكان، ومكافحة الفقر والتفاوت، تضيف المزيد من الضغوط على ميزانيات الحكومات. كما تزداد التحديات مع عودة الشعبوية، وضعف الطلب العام على ضبط النفس المالي بشكل كبير على مدى العقدين الماضيين.
معضلة ثلاثية
وأنتجت هذه الظروف معضلة ثلاثية في السياسة المالية. أولاً، تتعرض الحكومات لضغوط شديدة لزيادة الإنفاق على الدفاع، وتغير المناخ، وأكثر من ذلك بكثير، وفي الوقت نفسه تواجه مقاومة عامة قوية لزيادة الضرائب، وأخيرا تهدد المستويات الأعلى من الدين العام والعجز الأعلى بتعريض المالية العامة والاستقرار المالي في العديد من البلدان للخطر.
ويشكل ذلك مأزقا لأنه من المستحيل تقريبا على صناع السياسات أن يسعوا إلى تحقيق الخيارات الثلاثة في نفس الوقت، وعلى سبيل المثال قد تتمكن دولة ما من كبح جماح الديون مع الإبقاء على القيود على الضرائب ولكن هذا من شأنه أن يترك للحكومة خيارا واحدا هو خفض الإنفاق.
أو قد تستسلم الدولة لضغوط الإنفاق دون زيادة الضرائب، ولكن هذا من شأنه أن يؤدي إلى المزيد من الارتفاع في الديون والعجز ويعرض الاستدامة المالية والاستقرار المالي للخطر، ويواجه صناع السياسات في مختلف أنحاء العالم، في الاقتصادات المتقدمة والنامية على حد سواء، هذا المأزق الثلاثي.
وفي أوائل ثمانينيات القرن العشرين أصبحت الضغوط المماثلة على بلدان الأسواق الناشئة المعرضة للخطر أكثر مما يمكن تحمله، مما أدى إلى أزمة ديون منهجية، ولا يوجد أمام صناع السياسات على مستوى العالم خيار سوى مواجهة المأزق الثلاثي الآن، ولكن كيف يمكن تجنب نتيجة مماثلة؟
نموذج جديد
كان التضخم وعدم الاستقرار الاقتصادي الكلي قبل عقود قد فتح الطريق أمام نموذج جديد للفكر الاقتصادي، وكرس النموذج استقلال البنوك المركزية في إدارة السياسة النقدية لتحقيق استقرار الأسعار والحفاظ على الاقتصاد والتأثير على في النهاية على النمو والقدرة التنافسية وتوزيع الدخل والثروة.
وكانت قوة السياسة النقدية والمالية في العمل معا معروضة بالكامل في وقت جائحة كوفيد-19، فقد أنقذت الإجراءات السياسية السريعة والحاسمة الأرواح وسبل العيش حرفيا، على الرغم من أنه في أعقاب الوباء زاد الدين العام والعجز، وارتفع التضخم، وتزايدت المطالب السياسية بالتدخل العام، وعاد التحفيز على طريقة "ماينارد كينز" إلى الموضة مرة أخرى.
وعندما يتعلق الأمر بتغير المناخ مثلا يحتاج العالم إلى بذل المزيد من الجهود للحد من الاحتباس الحراري العالمي لكن في الوقت نفسه، فإن فجوات التمويل كبيرة ومتنامية، خاصة بالنسبة للبلدان النامية ذات الدخل المنخفض، والإدارة الاقتصادية الكلية السليمة هي المفتاح.
التحدي الحالي
وقال التقرير إن التحدي الذي نواجهه في هذه اللحظة التاريخية الفريدة هو ارتفاع مستويات الدين والعجز والتضخم المستمر، كما يقترن بضغوط مالية جديدة ناجمة عن قضايا بنيوية عالمية من تغير المناخ إلى الشيخوخة السكانية.
وبينما تتصارع البلدان مع معضلة السياسة المالية في هذا السياق، فمن الأفضل لها أن تضع في اعتبارها أربعة مبادئ مهمة.
أولاً، من المهم أن تحدد أولويات الإنفاق وتحسن جودة الإنفاق العام.
ثانياً، يجب وجود نظام ضريبي واسع النطاق ومرن وعادل. وبالنسبة للدول النامية، عادة ما يكون من الضروري إجراء ترقية كبيرة في القدرة الضريبية.
ثالثاً، من المهم أن نأخذ في الاعتبار البعد السياسي للسياسات المالية، وهذا يتطلب بناء المؤسسات المالية، المعتقدات والتصورات والقواعد والإجراءات والمنظمات، التي تعيد غرس وتعزيز الدعم العام للاستدامة المالية واستقرار المالية العامة.
وفي بعض الحالات قد يتطلب هذا مقاومة الجمهور للضرائب الأعلى، لكن من المهم أن يشرح صناع القرار بصدق الغرض من الأموال، فعندما تعمل الحكومات بطريقة شفافة وموثوقة، فإنها تعمل بشكل كبير على تحسين فرصها في الحفاظ على الدعم العام.
رابعاً، غالباً ما ترتبط فترات خفض الديون بتخفيضات عميقة وتضحيات مؤلمة، ولكن التعديل المالي التدريجي والمستدام من الممكن أن يوازن بين الحاجة إلى وضع الدين على مسار أكثر استدامة دون تقويض النمو أو التسبب في زيادة التفاوت. وبذلك لن تكون التحديات المالية الكبرى في عصرنا مستعصية على الحل، إن معضلة السياسة المالية تشكل اختبارا، ولكنها لا ينبغي أن تكون فخا.