الأرقام تقول إن معدلات الجريمة في الولايات المتحدة تراجعت بشكل واضح خلال العقود الأربعة الماضية، وهذا يوفر بيئة ملائمة لتشريعات جديدة.
لم يكن الشرطي ديريك تشوفين يدري أن الدقائق الثمانية التي جثا فيها بركبته على رقبة جورج فلويد ستقيم الدنيا ولا تقعدها أياماً طويلة، كل ثانية اختنق فيها فلويد تحولت لصرخة غضب صدحت بها حنجرة في موجة احتجاجات عمت الولايات المتحدة والعالم تحت عنوان عريض هو اجتثاث العنصرية.
هي ليست التظاهرات الأولى من نوعها في أمريكا، وفلويد لم يكن أول أسود قتل على يد شرطي أبيض عنصري، كذلك لم تأت المطالبات التي رفعها المحتجون بما هو غير مألوف أو متداول في البلاد منذ سنوات طويلة، الجديد الوحيد في المسألة سيكون ماذا يمكن لأزمة فلويد أن تبدل في المستقبل القريب للدولة وشرطتها.
وهناك ما يقارب 18 ألف مركز للشرطة في الولايات المتحدة، وبحسب إحصاء لصحيفة "واشنطن بوست"، فإن 463 أميركي قتلوا برصاص الشرطة منذ بداية العام الجاري، صحيح أن غالبيتهم من البيض، لكن ذلك لا يلغي حقيقة أن عنف الشرطة، خلال الاحتجاز أو التحقيق أو الاعتقال، يطال السود أكثر من غيرهم.
التغييرات المحتملة في الولايات المتحدة حتى هذه اللحظة تنحصر في هيكلية أجهزة الشرطة وقوانينها، لن يبلغ الأمر حدود إلغاء هذه الأجهزة تماماً، ولن يقضم ميزانيتها باقتطاعات كبيرة كما يدعو البعض، هذان الأمران يعارضهما الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ومنافسه الديمقراطي في الانتخابات الرئاسية المقبلة جو بايدن.
لا نذيع سراً بالقول إن التخفيض في ميزانيات الشرطة أمر يبحث على المستوى الفيدرالي وليس المحلي فقط في أمريكا، ولكن لن تكون هذه المهمة سهلة أبدا أمام الكونغرس، يتوجب على المؤسسة التشريعية في البلاد بذل قصارى جهدها لاحتواء غضب الشارع، ولكن ماذا يمكن أن تفعل؟ وهل يمكن تطبيقه في الواقع؟ .
تفكيك جهاز الشرطة في مدينة مينيابوليس، مسرح جريمة جورج فلويد، ليس معيارا للعقوبات التي يمكن لحكام الولايات إنزالها بأبناء هذه المؤسسة، الأصداء الكبيرة للحادثة هي ما مكنت المسؤولين هناك من فعل ذلك، ولكن هذا الاستثناء لن يتمدد بين الولايات، والعقوبات المرتقبة بحق الشرطة ربما تخيب آمال البعض.
الأرقام تقول إن معدلات الجريمة في الولايات المتحدة تراجعت بشكل واضح خلال العقود الأربعة الماضية، وهذا التراجع يوفر بيئة ملائمة لتشريعات جديدة تحد من قدرة الشرطة على ممارسة العنف ضد المدنيين، وتسهل عملية الملاحقة القانونية لعناصرها التي يتهمون بارتكاب جرائم مثل التي راح ضحيتها جورج فلويد.
لأرقام تقول إن معدلات الجريمة في الولايات المتحدة تراجعت بشكل واضح خلال العقود الأربعة الماضية، وهذا التراجع يوفر بيئة ملائمة لتشريعات جديدة.
النقاش في الكونغرس سيشتعل بسبب التشريعات المقترحة، ولكن تقليص ميزانيات الشرطة الكبيرة، أو المهولة مقارنة بغيرها من القطاعات، ربما يدرج متأخراً وبشكل خجول على أجندة المجلس بغرفتيه النواب والشيوخ، والسبب ببساطة مرتبط بقوة مؤسسة الشرطة وتداخلاتها الكثيرة في السياسة الداخلية الأمريكية.
المشكلة في ميزانيات الشرطة الكبيرة ليس فقط أنها تتضخم على حساب مجالات أخرى يحتاجها المجتمع بقدر ما يحتاج الأمن والأمان، وإنما أيضا أن هذه الميزانيات حولت الشرطة إلى قطع عسكرية بأسلحة لا تتناسب أبداً مع احتياجات التعامل مع مدنيين تجاوزوا القانون في سرقة أو اختلاس أو حتى جرائم قتل فردية.
ثمة تقارير صدرت من مؤسسات متخصصة من بينها منظمة العفو الدولية، حذرت من هذا التسليح لأجهزة الشرطة قبل أعوام من مقتل فلويد، فهي من جهة تتجاوز احتياجات العمل المعروفة بعيدا عن محاربة الإرهاب وعصابات الجرائم المنظمة، ومن جهة أخرى تزيد من عنف العاملين في هذه الأجهزة، لأنها تصور عمليات الملاحقة والمداهمة والمراقبة وكأنها ساحات حرب والمجرمون أعداء.
ما تراكم على مدار عقود من معاداة المدنيين المجرمين إن جاز التعبير، تحول إلى ثقافة ترسخت في عقول الأمريكيين وانعكست في سلوكياتهم وممارساتهم وحتى في أفلامهم السينمائية، هذه الثقافة التي يجب أن تتغير ليستعيد الشرطي هناك وظيفته كمسؤول عن حفظ الأمن الداخلي، وليس جندياً في ساحات القتال.
ربما تكون هذه هي البداية لوقف عنصرية الشرطة إزاء المدنيين في أمريكا، ومنها يبدأ إلغاء العنصرية عموماً في البلاد، تمرير التشريعات المقترحة عبر الكونغرس خطوة في الاتجاه الصحيح، ولكن الأمر يحتاج أيضا لجهود كبيرة في التوعية على مستويات مختلفة ولجميع الفئات، بما فيهم ساسة البلاد وصناع القرار فيها.
موت فلويد جعل التغيير الذي تنشده البلاد في مناهضة العنصرية منذ عقود، أقرب إلى الواقع اليوم، ليس فقط لأن موته كان بمثابة الشعرة التي قصمت ظهر البعير، وإنما أيضا لأنه جاء في وقت استثنائي، كان الأمريكيون فيه يصارعون إغلاق كورونا المستمر منذ أشهر، والساسة غارقون في خضم منافسة الديمقراطيين والجمهوريين استعداداً للانتخابات الرئاسية في شهر نوفمبر/ كانون الأول 2020.
كان للأمرين تأثير في الاحتجاجات، كما يتوقع أن يكون للاحتجاجات تأثير فيهما، التظاهرات كسرت الإغلاق دون حسيب أو رقيب، وعبثت بفرص المرشحين في الاستحقاق الرئاسي المقبل، لم تتضح الصورة بعد في تداعيات هذين الأثرين، ولكن النتيجة أيا كانت، لن تشكك في صواب قرار الأمريكيين بإنصاف فلويد ومن قضى قبله، بوباء العنصرية الذي يهدد حياة الملايين حول العالم منذ سنوات.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة