الدراما أو الفن في مجمله هو أخذ من الواقع ورد عليه في آن واحد، فالفن الواقعي هو إعادة تصوير الواقع المعاش
في ليالي رمضان، وعلى شاشاتنا الفضائية يتابع الجمهور العربي العديد من المسلسلات الدرامية كعادة رمضان باعتباره سوق الدراما السنوي .
والكل يعرف أن الدراما العربية مرت في السنوات الماضية بكثير من التحديات أهمها دخول وسائل التواصل الاجتماعي باعتبارها منافسا للدراما أكثر من كونها وسيلة للترويج إليها و الوصول إلى المشاهد العربي عبر المواقع الإلكترونية
لكن هذا العام نحن أمام مجموعة من المتغيرات التي طرأت على الدراما العربية وسوقها، أشهر هذه المتغيرات تقليل الكم والارتقاء بالكيف وهذا حدث في مصر ، بالمقارنة بين عدد المسلسلات في العامين الماضيين وعددها هذا العام سنكتشف أن الأعداد قلت جدا .
الدراما أو الفن في مجمله هو أخذ من الواقع ورد عليه في آن واحد، فالفن الواقعي هو إعادة تصوير الواقع المعاش بشكل فني، فالواقع هنا يكون قبل الفن, أي الفن مرآة الواقع.
الشيء الأخر هو ما يمكن أن نرصدة في إطار الصناعة نفسها، أي ما يتعلق بالشكل وما يتعلق بالمضمون في آن واحد .
فهناك أعمال درامية قفزت إلى فكرة ما وراء الواقع والانحياز إلى عصر الآلة ، مثل مسلسل " النهاية" . بطولة يوسف الشريف، "النهاية" عمل يقفز إلى ما وراء الزمن، إلى المستقبل عبر الآله ونهاية الكون .
وتنفيذ العمل إخراجيا يعتبر طفرة في الشكل لأول مرة في الدراما العربية .
لكن بصراحة الذي دفعني للكتابة هذا العام ظاهرة اعتبرها إيجابية وشديدة التأثير وتتوافق مع طبيعة وثقافة الإنسان المصري بل و العربي أيضا .
هذه الظاهرة هي تقديم النموذج الذي يشبه الشعب نفسه، لأن الدراما أو الفن في مجمله هو أخذ من الواقع ورد عليه في آن واحد ، فالفن الواقعي هو إعادة تصوير الواقع المعاش بشكل فني ، فالواقع هنا يكون قبل الفن , أي الفن مرآة الواقع
والفن أيضا في باقي مدارسه وتياراته مصباح ينير الواقع أي أنه سابق على الفن وناقدا عليه.
وبالتالي تكون العلاقة التي تربط الجمهور بالعمل الفني هي علاقة سحرية غامضة لا يدعي أحد أن يعرفها أو يضمنها .
فهناك عمل تكتمل جميع عناصره لكن حين يصل الجمهور يتحطم على صخرته وهناك عمل آخر قد يكون غير متكمل لكن الجمهور يتقبله .
هنا النقد الذي أميل إليه هو إعادة تفسير العمل الفني من زاوية وبوابة الجمهور وليس من زاوية وبوابة مكوناته .
فدراسة الجمهور مهمه.
هنا نقف أمام عملين يعرضان هذا العام في رمضان، هما "الاختيار" عن قصة بطل الصاعقة المصرية " الشهيد أحمد المنسي .
ومسلسل " الفتوة " عن قصة "حسن أحمد الجبالي" أحد فتوات مصر في القرن التاسع عشر " حتى لو كان الاسم مستعارا ، لكن نحن نتحدث عن نموذج له أصل في التاريخ والذاكرة المصرية .إذا نحن أمام نموذجين لشخصيتين مصرتين تحملان صفات ولهما نفس التركيبة التي لها أشباه في الوجدان وفي المجتمعع .
شخصية الفتوة النبيل غيرالمفتري وفي تاريخنا سنجد شخصية " على الزيبق" مثلا وشخصية البطل الشجاع الشهيد الأيقونة "أحمد المنسي".
أحمد المنسي يمثل القصة والنموذج الساخن الذي مازال حاضرا في الذاكرة بكل تفاصيله بصوته وصورته، بلحمه ودمه، ابن مرحلته وإبن زمانه ، ابن ثقافة المرحلة أيضا .
هنا يمكن أن استدعي أيضا من الذاكرة القريبة ، فيلم الممر ، بطلوة أحمد عز وآخرين .
عن قصة حقيقية لبطل الصاعقة الشهيد " إبراهيم الرفاعي " الذي كان نموذجا مصريا في بسالة الصمود والقتال ضد الاحتلال الإسرائيلي .
ونتذكر هنا كم الالتفاف وكثافة المشاهدة للعمل ، وأتذكر كتبت مقالين في"العزيزة " في" بوابة العين الإخبارية" عن فيلم المممر وتم نقد العمل من بوابة الجمهور والمتلقي وليس من زاوية العمل الفني نفسه .
وبالتالي نحن أمام نموذجين حاضرين في الوجدان المصري والذاكرة، فيلم الممر عن شخصية البطل إبراهيم الرفاعي في قتاله ضد الإسرائليين
ومسلسل "الاختيار "عن شخصية أحمد المنسي في قتاله ضد الإرهاب .
والعملان والبطلان يدوران في سيناء" أرض البسالة والطهارة والقداسة"، وبالتالي يبقى السؤال عالقا :
ما السر وراء إقبال الجمهور على مثل هذه الأعمال .؟
رغم أن هناك أعمال أخرى اكثر اكتمالا للعناصر الفنية والبطولة لم تحقق مثل هذا النجاح " مثل فيلم حائط البطولات مثلا ؟
السر هنا في اعتقادي يدور حول مجموعة أسباب أبرزها هو الشخصية النموذج والقدوة التي تقدم للمشاهد .
فكرة تقديم الإيجابة على سؤال المتلقي:
من الذي الذي يشبيهني؟ .
وبالتالي كان البطل إبراهيم الرفاعي وهكذا أحمد المنسي نموذجين وجدا قبولا بل كان الجمهور عطشا لهما .
لماذا ؟
لأن هذه الأعمال جاءت بعد مرحلة شديدة السوء مرت على المجتمع المصري حين أصر الفن أو بعضه أوما اسميه هنا الفن السيء، أصر على تقديم نماذج للمجتمع المصري تحديدا لا تشبهه حتى لو كانت موجودة وبندرة، هنا ساتحدث عن موجة تسخييف الشخصية المصرية بل ومسحها .
لأبسط الأمر على أي إنسان يحمل ذائقة أو رؤية ووعي عليه أن يقارن بين شخصيتين وبين عملين وبين نوعين من الفن، "عبده موته " وبين " أحمد المنسي" في الاختيار أو إبراهيم الرفاعي في "الممر "ستجد الفرق شاسعا، فرق بين السماء والأرض .
ستجد أن الأقرب إلى التركيبة المصرية ليس نموذج عبده موته ولا شخصية البلطجي .
هنا سأتحدث عن هذه الموجة التي أعتقد أن تكرست أكثر بفيلم "إبراهيم الأبيض" الذي قدم عام 2009 . بطولة النجم" أحمد السقا " الذي قدم أعمالا رائعة بخلاف إبراهيم الأبيض .
ثم جات سلسلة افلام كارثية تنشر فكرة البلطجي وانتصار البلطجي في زمن التغيرات الكبيرى اي بعد بداية موجة الربيع العربي .
ودائما حين تمر المجتمعات بخلخلة وتغيرات كبرى مثل الثورات وغيرها تظهر على السطح الظواهر التي كانت راكدة .
فظهرت في عام 2012 فيلمان لمحمد رمضان ، فيلم " الالماني -- وفيلم " عبده موته " والفيلمان يقدمان للجمهور شخصية واحدة شخصية البلطجي الذي ينتصر في النهاية .
خطورة هذه الأفلام انها جاءت في وقت ومتغير زمني خطير حيث ان المجتمع والشخصية المصرية بل والعربية غيرمتوازنة ، جاءت بعد موجة " ثورات تغطي الخارطة العربية .ا
التبست على المواطن كثير من المعايير ، ماعاد قادرا على التفريق بين الحرية وبين والبلطجة .
وبعدها توالت تلك النوعية من الأفلام لتقدم " القشاش-ريجاته – اولاد رزق –وبقية الأفلام التي تتشابه معها، طفح الفن على الواقع بمعنى أن كثير من المشاهد التي رأيناه على شاشة السينما قلدها الجمهور والشباب في الحقيقة ، انتشرت " السكينة والمطواة والسنجة " أي السكينة الكبيرة " مكان القلم والحكمة والأخلاق .
ساهم الفن السيء في تحريك السلوك السيء في الواقع , لأن البعض يدافع عن هذه الأفلام باعتبارها ليست التي أوجدت العنف في المجتمع .
فعلا هي لم تصنعه لأنه موجود ومدفون بين طياته لكنها حركته ، اظهرته ، احييته من جديد ، اعطته مشروعية الوجود والتواجد .
وبالتالي حين يصحح الفن من نفسه ومن قيمه ويعيد تقديم النماذج التي يجب أن تقدم إلى الجمهور ،والجمهور أثبت لمن يقدمون هذا الفن أنه متشوق ومتلهف وعطشان له حيث أقبل عليه وجعل هذا الفن يحقق أكبر نسبة مشاهدة ببساطة لأن نموذج الفتوة العادل ، أو القوي العادل هو النموذج الذي يفضله ويحبه المواطن المصري .
هنا انتقل للحديث عن مسلسل " الفتوة" بطولة الفنان المحترم " ياسر جلال "
ياسر الذي يسير بخطى ثابته تجاه الوصول إلى الجمهور ، وخلق علاقة متزنة وراسخة مع المتلقي ، مستفيدا مما يمكن أن نسميه فنان الموجة المؤقتة " وهؤلاء كثر ، هناك فنانون حققوا نجاحات عبر عمل معين أو عملين وفجاة اختفوا لأنهم ظهروا ضمن موجة عابرة والموجات في البحر لا تدون حتما ستصطدم بالشاطة وتموت .
ياسر جلال" من الفنانيين الذين يصرون على عمل علاقة دائمة مع الجمهور، مسلسل الفتوة الذي يدور حول شخصية " حسن أحمد الجبالي " يعيد تقديم نموذج للفتوة مختلف عن النماذج التي قدمه "عمنا جميعا وشيخ الرواية العربية " نجيب محفوظ في سلسلتة الشهير عن الفتوات، الفتوة الذي تضيع منه الفتونه ثم يسعى لاستعادتها وبالتالي يعمل على نصرة الحرافيش .
لكن حسن الجبالي"لا يريد الفتونة"، بل ويعلن أنه يرفضها ، وحين يمارسها، يكون ملثما، هو يسعى لتحقيق العدل دون استثمار نجاحاته عبر شهرة أو جاه أو مال ,
يمارس الفتونة سرا، ويمارس الطيبة علنا .
هو النموذج القوي لكنه المتسامح ، وكثير من التعليقات المتعلقة بقراءة سيكولجية الجماهير تقول إن المجتمع يحتاج هذه الأخلاق الآن ، لتصحيح الفهم الخاطىء عن أن الرجولة تعني أن تقتل الاخرين .
الفن هو إعادة ترميم وجدان الشعوب، وحين أصبح الفن مطية للرأسمالية ورجال الأعمال أصبح أداة هدم للمجتمع، وأداة حلب للمواطن، الفن غايته بناء الوجدان والفنان هو ساعي بريد القيم
لا بد أن تعود الدول لدعم الفن من ميزانتها وألا تتركه أداة في يد رجالات البيزنس لتحقيق مكاسب على حساب القيم .
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة