الظواهر البشرية حين تكبر تحتاج إلى فهمٍ، وحين يزداد تأثيرها تحتاج إلى علمٍ ومعرفةٍ تمنح القدرة المستقرة على الفهم الدقيق والاستقراء، ما يسهل من مهمة استشراف مستقبلها بعد التعامل مع واقعها ورصد تاريخها.
تطور العلوم مرّ بمراحل شتى معروفة ومؤرخة ومكتوبة، في كل علمٍ على حدةٍ، ويكفي القراءة في أصناف العلوم وكيف تطورت حتى استوت على سوقها لمعرفة أن استمرارية تأسيس علومٍ جديدة ومداخل مختلفة هو شأن العلم في كل مجالٍ، ويبقى تطوّر العلم وتطور البشرية صنوان لا يفترقان.
تاريخ الفلسفة الطويل شاهدٌ في الانتقال من الفلسفات العامة إلى الفلسفات المتخصصة، وتاريخ العلوم المتفرعة عنها طويل كعلم الاجتماع والتاريخ وغيرها الكثير، وكل علمٍ ينتج فروعه ويطوّر نفسه ويتطور مع البشر، ويصح هذا في تاريخ علوم الشريعة في الإسلام، وهذا بشكل عامٍ شأن كل علمٍ وفنٍ على الدوام.
"الإسلام السياسي" مصطلح ذو دلالة حديثة يشتمل على أصولٍ وفروعٍ تعبر عن مدى اتساعه وأهميته وتأثيره، وهو مستمرٌ منذ ما يقارب الثمانية عقود في أكثر من مكانٍ في دول العالم الإسلامي قبل أن ينتشر في كافة المعمورة، وهو لهذا بحاجة حقيقية للإحاطة به من كافة الجوانب بمنهج أكاديمي صارم يكشف جوانبه ويرصد أبعاده ويتعمق فيه منهجاً وتنظيماتٍ، خطاباً ومفاهيم، طبيعةً وعلاقاتٍ.
وهذه الإحاطة به يمكن أن تكون فرعاً جديداً في العلوم الإنسانية في العالم، وأجدر من يقوم بذلك هم المسلمون أنفسهم، والجامعات والأكاديميات التي تشتمل على أقسامٍ تناقش ظواهر اجتماعية وثقافية تشكل أولوية لدى بعض دول العالم وتغفل عن إنشاء أقسامٍ تعنى بمشكلات الدول المسلمة.
كأي علمٍ يحتاج إلى عملٍ على التعريفات التأسيسية بشكلٍ علميٍ محكمٍ، بحيث يتم خلاله تعريف هذا العلم وموضوعه وأصوله وفروعه وعلائقه بالعلوم القريبة منه.
وسيتناول الكثير من الموضوعات والبحوث والتفرعات، مع العمل على رصدٍ لتاريخ هذا الموضوع وهذه الظاهرة، ومتى بدأت، وكيف ظهرت على السطح، وكيف تطورت تاريخياً عبر عقودٍ، سواء في الهند، أم في مصر، أم في إيران، أم في بقية العالم.
يمكن لفروع هذا العلم التخصص جغرافياً على مساحة الكرة الأرضية، بحيث يتم تناول هذه الظاهرة في أهم المناطق التي انتشر فيها، ورصد خصائص كل منطقة.
وعلى سبيل المثال يمكن تقسيم التناول لهذا مبدئياً ضمن عدة فروعٍ منها، الإسلام السياسي في الهند وباكستان وأفغانستان وكشمير، والإسلام السياسي في العالم العربي، في مصر بلد المنشأ عربياً ثم في كل دولة عربيةٍ على حدةٍ، كمصر والسعودية والإمارات والعراق وسوريا والمغرب العربي، والإسلام السياسي في بلاد الملاوي، ماليزيا وإندونيسيا وبروناي، والإسلام السياسي في إيران، والنسخة الشيعية للإسلام السياسي، ورصد العلاقات والتأثيرات بين النسختين السنية والشيعية، والعمل على معرفة الإسلام السياسي في الدول الغربية والشرقية وبقية دول العالم ومناطقه.
الفكر تأسيساً وتطوراً هو مجالٌ لتناول هذه الظاهرة، بحيث تم تناول المفاهيم الحاكمة والمبادئ الرئيسة، ورصد علاقتها بدين الإسلام وعلاقتها بالشيوعية كما بالنازية والفاشية والتنظيمات الأوروبية القومية مطلع القرن العشرين، ويتم فيه رصد تفاصيل أيديولوجيات الإسلام السياسي المتعددة وخطابات جماعاته ورموزه، والتطرق للأهداف والغايات التي يعمل لأجل تحقيقها.
وما يجمع بينها وما يختلف، وهذا مجالٌ واسعٌ وثريٌ حين يوضع تحت مشرط العلم وشرط المعرفة.
أخيراً، فهذا حديثٌ مختصرٌ جداً، في أهمية تأسيس علم خاص بهذه الظاهرة يشكل خطوةً مهمةً في سبيل العلم والمعرفة وإضافة لا يمكن الاستغناء عنها، وسيحقق غاياتٍ ثمينة للعلم وللمسلمين والبشرية جمعاء، وستكون له أبعادٌ سياسية واقتصادية وثقافية واجتماعية تمنع التلاعب وتقلل الأضرار وتزيد المعرفة.
نقلا عن الاتحاد الإماراتية
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة