«إم 23» تعيد فرنسا إلى قلب أفريقيا.. نفوذ على المحك
مع تسارع التطورات على الحدود بين الكونغو الديمقراطية ورواندا وجدت فرنسا نفسها مجبرة على العودة إلى القارة السمراء بحثا عن دور ينقذ نفوذها المتآكل، لكنه اختبار صعب.
على خلفية تقدم مسلحي حركة 23 مارس -المعروفة اختصارا بـ"إم 23" والمدعومة من كيغالي- نحو عاصمة الشرق في الكونغو الديمقراطية، وسط تحذيرات من حرب في الإقليم، سارعت فرنسا إلى إلقاء ثقلها لإيجاد حل للأزمة المتفجرة، ونزع فتيل قنبلة تعيد شجون التاريخ في أفريقيا وتمس جرح باريس النازف.
خلال الأعوام القليلة الماضية تراجع النفوذ الفرنسي بشدة في غرب أفريقيا، وأُجبرت باريس على سحب جيشها من عدة دول، فيما بدأت روسيا تحل محلها، وسط صراع دولي على القارة الغنية بالمواد الخام.
دور حذر
يقوم وزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو بزيارة إلى رواندا، بعد محادثات في جمهورية الكونغو الديمقراطية، في إطار جهود رامية إلى منع تصعيد إقليمي، في أعقاب استيلاء مسلحي إم 23 وقوات تابعة للجيش الرواندي على مدينة غوما بشرق الكونغو.
تنفي كيغالي أي دعم للحركة المتمردة في الكونغو الديمقراطية، لكن وقائع التاريخ المرتبط بمذابح رواندا تشير إلى دور محتمل، تقول عواصم غربية ومؤسسات دولية إن دلائل عديدة تؤكده.
وتسعى فرنسا -التي تتولى زمام المبادرة في التعامل مع الأزمة نيابة عن مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة- إلى احتواء أكبر تصعيد في المنطقة منذ 2012 في صراع مستمر منذ عقود.
ورأى الخبير التشادي في الشؤون الأفريقية الدكتور محمد شريف جاكو أن فرنسا لديها مصلحة مباشرة لاحتواء الصراع كونها مستفيدة من المعادن الخام في شرق الكونغو الديمقراطية، كما أنها تخشى من أن كينشاسا قد تلجأ إلى روسيا بحثا عن حليف في خضم الأزمة.
حل دبلوماسي
قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الفرنسية كريستوف لوموان، أمس الخميس، إن وزير الخارجية جان-إيف لودريان تولى المهمة بعد أن تحدث الرئيس إيمانويل ماكرون مع نظيره الكونغولي فيليكس تشيسكيدي والرواندي بول كاغامي، مضيفا أن الهدف هو التوصل إلى حل دبلوماسي لهذا الصراع الذي لا بد أن ينتهي فورا.
وتابع أنه يجب على "حركة 23 مارس الانسحاب فورا من الأراضي التي سيطرت عليها، وعلى القوات الرواندية أن تغادر أراضي الكونغو الديمقراطية على وجه السرعة"، مؤكدا أن سيادة الكونغو الديمقراطية وسلامة أراضيها أمران غير قابلين للتفاوض.
خطر التصعيد
تأتي الجهود الفرنسية بعد أن اقتحم محتجون سفارات أجنبية في العاصمة الكونغولية كينشاسا، الثلاثاء الماضي، منها مقر البعثة الفرنسية نفسها، واتهم المتظاهرون باريس بالتدخل في الشؤون الداخلية للكونغو، كما ندد تشيسكيدي أمس الأول الأربعاء بما سماه "تقاعس" المجتمع الدولي حيال سيطرة مقاتلي "إم 23" المدعومين من رواندا على مناطق في شرقي البلاد، محذراً من خطر تصعيد إقليمي في ظل استمرار تقدمهم.
كما تتهم الكونغو الديمقراطية والأمم المتحدة والولايات المتحدة وقوى غربية أخرى قوات رواندا بدعم متمردي حركة "إم 23"، وهو ما نفته كيغالي مرارا.
وبعد التدخل الفرنسي بات السؤال: هل تنجح باريس في حل الأزمة قبل تفاقمها، أم أن الأوضاع قد تطورت بعد سيطرة متمردي "إم 23" على مدينة غوما الاستراتيجية شرقي الكونغو؟ وإلى أي مدى تستطيع أن تحاصر فرنسا استدعاء منافسين دوليين لها بالقارة الأفريقية مثل روسيا؟
أزمة تاريخية
يعتقد الخبير التشادي جاكو أن الأزمة في الكونغو الديمقراطية تصاعدت بشكل دراماتيكي بعد فشل المفاوضات في أنغولا للمصالحة في البلاد.
وقال جاكو لـ"العين الإخبارية" إنها أزمة تاريخية ولها تداعيات معقدة، مشيرا إلى المظاهرات في الكونغو وحرق سفارات فرنسا ورواندا وكينيا وبلجيكا، مرجحا أن تكون المظاهرات جاءت بـ"تحريض من النظام الكونغولي نفسه"، حسب قوله.
وأضاف أن فرنسا متورطة وليست بعيدة عن القضية، وربما تحاول أن تدخل لمعالجة هذه الأزمة لهدفين، أولهما تغطية تورطها، وثانيهما لتظهر أمام العالم خاصة بعض الدول الأفريقية الناقمة عليها، بأنها لا تزال لديها دور يمكن أن تلعبه في أفريقيا لتحسين صورتها.
جذور الأزمة
وبحسب الخبير التشادي فإنه من الصعب جدا أن تستطيع فرنسا التعامل مع الأزمة دون الوصول إلى إقناع الأطراف المتصارعة.
وتعود جذور الأزمة إلى وجود أقلية إثنية من قبيلة التوتسي من أصول رواندية عاشت في الكونغو الديمقراطية أكثر من مئة عام، ولا تحظى باعتراف رسمي.
وأوضح الخبير التشادي أن حركة "إم 23" تتكون في غالبيتها من هذه الإثنية (التوتسي التي تعرضت لمجازر في رواندا حيث قتل نحو مليون شخص منها خلال صراعها مع الهوتو)، وهذا أساس المشكلة. مضيفا أن هروب عدد كبير جدا من الذين كانوا في الحكومة السابقة التي ارتكبت جرائم ضد الإنسانية في رواندا إلى الكونغو الديمقراطية وتشكيلهم حركة معادية لرواندا باسم القوات الديمقراطية لتحرير رواندا، وأغلبيتها من إثنية الهوتو، باتت هذه الحركة تشكل عبئا على حكومة كينشاسا وقلقا للحكومة في كيغالي.
وأشار جاكو إلى أن حركة مارس 23 تسيطر على مناجم من المعادن في شرق الكونغو الديمقراطية لتمويل نشاطها، ويتم تصديرها إلى الخارج عبر رواندا، وإن ذلك يؤدي إلى وجود مصالح بينهما.
محاولة جادة
واعتبر الباحث السوداني في الشؤون الأفريقية الدكتور محمد تورشين أن زيارة وزير الخارجية الفرنسي لرواندا، والاتصال بين ماكرون والرئيس الكونغولي والرواندي قبلها، محاولة جادة من فرنسا لمزيد من التأثير في منطقة البحيرات العظمى.
وقال تورشين لـ"العين الإخبارية" إن هذه المنطقة لم تكن يوما من المستعمرات الفرنسية، لكن التأثير الفرنسي حاضر من خلال الثقافة واللغة ووجود الشركات الفرنسية في الكونغو التي تعمل في مجال التنقيب والتعدين.
ورأى أن فرنسا يمكن أن تنجح في حل الأزمة، لكن الأمر ليس بالمهمة السهلة، لافتا إلى التعقيدات التي تحيط بالملف.
مهمة معقدة
ورأى الباحث السوداني أن المعضلة دائما تكمن في الخلاف الشخصي بين الرئيسين الكونغولي والرواندي في قضايا اعتبرها شخصية، مضيفا أن الأهم من ذلك أن رواندا مصلحتها أن تبقى الأوضاع هكذا في حالة من الاضطراب وعدم الاستقرار لأسباب اقتصادية، حيث تستفيد من تصدير المعادن في شرق الكونغو.
وتابع أن رواندا أيضا تريد أن تكون قوة إقليمية مؤثرة، دون أن تؤهلها مساحتها أو مواردها أو حتى عدد سكانها للعب ذلك الدور.
وأوضح أن الكونغو الديمقراطية بحكم الجغرافيا مرشحة لأن تكون الدولة الأبرز في المنطقة، لذلك من المهم لـكيغالي أن تظل كينشاسا منشغلة بالصراع في الشرق.
لكن الباحث السوداني رجح نجاح فرنسا عبر ممارسة الضغط المباشر على رواندا، ورأى أن ما يدعم باريس أنها مدعومة برغبة دولية في إنجاح وساطتها.
وقال "إذا ظلت الأوضاع هكذا وظلت الحركة تتقدم على أرض المعركة ستغير الكونغو الديمقراطية تحالفاتها الاستراتيجية"، مبينا أن الكونغو منذ فترة الحرب الباردة هي شريكة للغرب وأمريكا، وإذا استمرت الأوضاع بهذه الطريقة ومن خلال التصريحات الإيجابية للروس في مجلس الأمن، يمكن أن يستعين الرئيس الكونغولي بالروس لتغيير المعادلة العسكرية.
وأشار تورشين إلى أن اللحظة الراهنة لحظة خيارات مفتوحة، وفرنسا تدرك ذلك، لذا تتحرك بشكل قوي لأن نجاحها يعد عودة للقارة وتكريسا لنفوذها الاقتصادي والثقافي، مشددا على حاجتها إلى مراجعة الكثير من توجهاتها الخارجية للمحافظة على نفوذها.
aXA6IDMuMTYuODMuMTY3IA== جزيرة ام اند امز