كل الأحاديث في وسائل الإعلام والمقاهي وفي وسائل النقل العمومية في فرنسا تدور حول الفضيحة المتعلقة بمرشح اليمين الفرنسي للانتخابات الرئاسية فرانسوا فيُّون الذي يواجه قضية اتهامات بوظائف وهمية مفترضة لزوجته!. وكانت أسبوعية «لوكانار أنشينيه» ال
كل الأحاديث في وسائل الإعلام والمقاهي وفي وسائل النقل العمومية في فرنسا تدور حول الفضيحة المتعلقة بمرشح اليمين الفرنسي للانتخابات الرئاسية فرانسوا فيُّون الذي يواجه قضية اتهامات بوظائف وهمية مفترضة لزوجته!. وكانت أسبوعية «لوكانار أنشينيه» الفرنسية، أفادت في أحد إصداراتها، أن زوجة فيون، المتهمة بالاستفادة من وظائف وهمية، تقاضت ما مجموعه أكثر من 900 ألف يورو، في إطار العمل كـ«مساعدة برلمانية»، أو متعاونة مع مجلة ثقافية. وبعدما كانت الصحيفة أوردت مبلغ «500 ألف يورو»، نقلت فيما بعد أن المبلغ الإجمالي الذي تقاضته بينيلوب فيون لقاء عملها كمساعدة برلمانية لزوجها، أو للمنتدب عنه مارك جولو، بلغ 831440 يورو خلال الفترة ما بين 1988 و1990 وما بين 1998 و2007 ثم خلال العامين 2012 و2013، كما تقاضت زوجة فيون أيضاً نحو 100 ألف يورو لقاء عمل في مجلة «ريفو دي دو موند» خلال العامين 2012 و2013... وهذه الفضيحة المدوية زلزلت أكثر فأكثر الثقة القليلة المتبقية عند المواطنين الفرنسيين في طبقتهم السياسية، فهناك تذمر من العمل السياسي بأسره، وهناك مفاجآت تترى الواحدة تلو الأخرى.
إن الطريق إلى قصر الإليزيه محفوف عادة بالمفاجآت والمخاطر، وقد أضحى يخلف وراءه ضحايا من السياسيين الكبار، فبعد أن أكد الرئيس الفرنسي الحالي فرانسوا أولاند عدم ترشحه للانتخابات الرئاسية المقبلة، ها هي الانتخابات التمهيدية اليسارية تزيح المرشح اليساري مانويل فالس الذي كان رئيساً للحكومة، وها هي الانتخابات اليمينية التمهيدية تزيح كلًا من نيكولا ساركوزي الذي اعتزل السياسة، وآلان جُوبيه الذي كانت استطلاعات الرأي تعطيه الترتيب الأول.
وعلى رغم تكذيب فيون لكل المزاعم التي سيقت ضده، واعتبارها من إملاءات الخصوم، أي «الدولة العميقة» الفرنسية والمتربصين من اليسار واليمين، فإن هذه الواقعة قلصت كثيراً من حظوظه في الفوز، وأفقدته المصداقية لدى كثير من الناخبين الفرنسيين... وها هي الأقدار تجعل المرشح فيون يشرب من الماء الآسن الذي جرعه آلان جوبيه هو نفسه عندما أثار، أثناء تمهيديات نوفمبر 2016، قضية التوظيف الوهمي في بلدية باريس التي كان بطلها آلان جوبيه في تسعينيات القرن الماضي!
والدولة العميقة الفرنسية تعرف أحياناً التصرفات اللاقانونية واللاأخلاقية، بل واللاشرعية لبعض فاعليها السياسيين الكبار عندما يقومون باختلاسات ذكية، أو بتهربات ضريبية، أو بمناورات لإرضاء أتباعهم أو زوجاتهم أو أولادهم... وقد يبقى السر مدفوناً لسنوات، بل لعقود، في سجلات بعض مؤسسات الدولة العميقة إلى أن تأتي الفرصة السانحة ليكشف عن المستور ويقضى على الإنسان وأهله، تماماً كما وقع لهيلاري كلينتون في الولايات المتحدة، إلا أن حالتها كانت أخطر لأن الدولة العميقة الأميركية زُعم أن بعض من الأدمغة المخابراتية الروسية قد اخترقتها، وأحدثت من النتائج ما لا يمكن أن تحدثه حرب كلاسيكية تقليدية.
والراهن أن فرنسا ليست بخير. وهذا هو الانطباع السائد في الصالونات الفكرية، وفي التقارير المؤسساتية الفرنسية البارزة. فالبلاد تعاني أزمة ثقة بين المواطن والدولة، ونتذكر في هذا السياق أحد أعداد مجلة «لوبوان» Le Point الفرنسية، حيث عنونت عددها ذلك: «كيف تولد الثورات، هل نحن في سنة 1789؟». وكما هو معلوم فالثورة الفرنسية اندلعت عام 1789 في مرحلة من الاضطرابات الاجتماعية والسياسية أثرت بشكل بالغ على فرنسا وعلى كل الدول الأوروبية، وقد انهار خلالها النظام الملكي، الذي حكم فرنسا لعدة قرون، في غضون ثلاث سنوات. وخضع المجتمع الفرنسي لعملية تحوّل مع إلغاء الامتيازات الإقطاعية والأرستقراطية والدينية وبروز الجماعات السياسيّة اليساريّة الراديكالية، إلى جانب بروز دور عموم الجماهير وفلاحي الريف في تحديد مصير المجتمع. كما تم خلالها أيضاً رفع ما عرف باسم مبادئ التنوير، وهي المساواة في الحقوق والمواطنة والحرية ومحو الأفكار السائدة عن التقاليد والتسلسل الهرمي والطبقة الأرستقراطية والسلطتين الملكية والدينية.
والدولة في تلك الفترة، مثل اليوم، عاشت مرحلة من انعدام الثقة، وفي تلك الفترة كانت الدولة تحت رحمة المستفيدين من اقتصاد الريع الذين يطعمون خزينة الدولة، أما اليوم فالدولة تخضع سياسياً للفرنسيين الذين تقوم بتمويلهم.... وحسب العديد من الاستراتيجيين، فكل الفاعلين السياسيين ليسوا في الحركية السياسية الصحيحة، وهم غارقون جميعهم في مستنقع الدفاع الظرفي عن النفس، مما قد يترك الباب مفتوحاً لوصول الفاعلين اليمينيين المتطرفين إلى الحكم، تماماً كما وقع في الولايات المتحدة.
وكان الملك لويس السادس عشر قد خلق نظاماً إقطاعياً قوياً وشمولياً. والشيء نفسه يقال عن الجمهورية الخامسة الفرنسية التي أسسها ديغول، كنموذج للدولة القوية... والمصيبة هي أنه عندما تخلق دولة قوية ويحكمها أناس ضعفاء أو لا شرعية لهم. فهنا الكارثة.
نقلا عن صحيفة الاتحاد
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة