المعضلة الأفريقية.. الإرث الفرنسي في مزاد عالم يتغير
بدت مسلمات السياسة الفرنسية في أفريقيا محل سؤال، بعد عقود من هيمنة مطلقة فيما يتصارع لاعبون جدد لاقتناص عرشها في القارة السمراء.
فمن باماكو كما إلى واجادوجو، يتنامى الشعور المناهض للوجود الفرنسي سواء في الشوارع أو على شبكات التوصل الاجتماعي، وصولاً حتى إلى القصر الرئاسي.
لكن باريس ما زالت تراهن على قوتها الناعمة وجنودها في بعض دول غرب أفريقيا، حيث لا تزال تحظى بوجود عسكري في ساحل العاج والنيجر والسنغال والكاميرون وسط مطالبات بإخراجهم والتعاون مع القوات الأفريقية.
وينبع التوجه الجديد للسياسة الفرنسية في المنطقة من كون باريس تحولت إلى حليف مرهق لحكومات غرب أفريقيا، وبات الشعور المناهض لباريس موضوعا طاغيا، خصوصاً في السياسة الداخلية لدول القارة السمراء.
صراع كبير على القارة
ويرى الأكاديمي والباحث في الشأن الأفريقي، أحمد خلف أبوالفضل، إنه بعد 9 أعوام من الانتشار العسكري الفرنسي المتمثل في وحداتها الجوية والتي كان آخرها قوة برخان والتي كانت تعمل على مقاومة الإرهاب في مالي ومنطقة غرب أفريقيا وتحديدا بعد الانقلاب ظهرت خلافات بين البلدين وعلت دعوات تطالب برحيل قوات باريس.
ويضيف أبو الفضل في حديثه لــ" العين الإخبارية" أنه رغم ما قامت به باريس من مساعدات عسكرية وتقويض قدرات التنظيمات الإرهابية إلا أن هذه العمليات العسكرية لم تشفع لها في مالي التي أصرت على قرارها الاستغناء عن القوات الفرنسية.
وسحبت فرنسا جنودها من مالي في أغسطس/آب من العام الماضي، فيما ما زالت مخاطر الانتشار الإرهابي في البلاد مثيرة لقلق غالبية دول الساحل.
وأوضح الباحث أن فرنسا حافظت على وجودها في المنطقة نظراً لوجود مصالح اقتصادية لها في دول غرب أفريقيا خاصة في دول مثل الكاميرون وبوركينافاسو والكونغو، لافتا إلى أن باريس لا تملك العديد من الخيارات في ظل منازعة روسية على التواجد العسكري تحت راية الحرب على الإرهاب.
وتحافظ فرنسا على ما يبدو على إبقاء وجودها العسكري في دول غرب أفريقيا خارج دائرة الضوء، لتخفيف الضغط على الحلفاء في القارة، كما تعمل على تشجع التحالفات الإقليمية، كتحالف المجموعة الاقتصادية لغرب أفريقيا والتي تضم 15 دولة.
ويتشكل التحالف من الرأس الأخضر وغامبيا وغينيا وغينيا بيساو وليبيريا ومالي والسنغال وسيراليون وبنين وبوركينا فاسو وغانا وساحل العاج والنيجر ونيجيريا وتوغو، هذا التحالف الاقتصادي من مهامه الدفاع العسكري للدول الأعضاء ضد الإرهاب ونظراً لرفض مالي الوجود الفرنسي تم تعليق عضوية الأولى في المجموعة.
لكن الرفض الأفريقي للوجود الفرنسي لم يكن مصدر القلق الوحيد لباريس، فما يخيفها أكثر الحضور الروسي الصيني في مناطق نفوذها التقليدية، خاصة في ظل انقلابات في القارة يبدو أنه قادتها لا يرحبون بالتعاون مع فرنسا.
ويوضح أبو الفضل أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون صرح سابقاً بأن بلاده تعتزم توسيع الجهاز العسكري خارج منطقة الساحل، إلى خليج غينيا والدول التي يتعين عليها الآن مواجهة مجموعات إرهابية تتمدد خاصة بنين وغينيا بيساو، لذا نجد أن العمليات الإرهابية في تلك الدول محكومة وتحت السيطرة الأمنية، مشيرا إلى أن باريس تنظر إلى الكاميرون كنقطة انطلاق لاستعادة الهيمنة ولمقاومة سيطرة القوات المنافسة الأخرى.
جيل جديد يرفض باريس
رئيس قسم السياسة والاقتصاد بكلية الدراسات الأفريقية العليا بجامعة القاهرة، الدكتورة سالي فريد، قالت إن ما حدث كان مفاجئا لباريس في خرائط نفوذها التاريخي في أفريقيا لا سيما لدى "مجموعة دول الساحل الخمس": مالي، بوركينا فاسو، تشاد، النيجر، موريتانيا.
وأضافت فريد في حديثها لــ" العين الإخبارية" أن باريس ستسحب قواتها من بوركينا فاسو كما فعلت قبل ذلك في مالي وأفريقيا الوسطى، مشيرة إلى أن الأفارقة يتغيرون وعلى فرنسا أن تعي ضرورة تغييرها عن الحقبة الاستعمارية في التسويق لأبوية واستعلاء بات يرفضهما جيل أفريقيا الجديد.
وأشارت إلى أن الخروج الفرنسي يقابله تدافَعُ كبير من وزراء الدول الكبرى لرسم الخرائط الجيوستراتيجية الجديدة في أفريقيا ما يحضّر القارة لواجهات جديدة للصراع الدولي العام.
وأكدت أن ما يحدث في القارة السمراء يقلق حلف شمال الأطلسي الذي أشار في قمة يونيو/حزيران الماضي إلى أن أفريقيا تقع جنوب ميدان نفوذ "الناتو" وأن انتشار الإرهاب والهجرة غير الشرعية وانتشار النفوذ العسكري الروسي الصيني يشكّل تحدّيًا مباشرًا لم يكن أولوية قبل ذلك داخل عقائد الحلف واستراتيجياته.
سياسة الاستعلاء
ومن جانبها أكدت الدكتورة إيمان الشعراوي، مدير وحدة الدراسات الأفريقية بمركز المستقبل الإقليمي للدراسات الاستراتيجية، أن هناك الكثير من الدلالات التي تؤكد تراجع الوجود الفرنسي في أفريقيا الفترة الماضي، أبرزها قطع أفريقيا الوسطى ومالي علاقتهما بفرنسا عامي 2021 و 2022 على التوالي، كما طلبت بوركينا فاسو مغادرة القوات الفرنسية أراضيها، موضحًا أن هذه الدول مناطق نفوذ فرنسية، كما أن تشاد شهدت اندلاع مظاهرات تطالب بالرحيل الفرنسي عن أراضيها
وعن أسباب تراجع الدور الفرنسي، أضافت الشعراوي، في حديثها لــ"العين الإخبارية" أنه على الرغم من بدء فرنسا تغيير استراتيجيتها في التعامل مع أفريقيا، وتغيير مناطق وجودها خاصة الوجود العسكري، إلا أن استمرار سياسة فرنسا الاستعلائية في التعامل مع القارة الأفريقية ونهب ثرواتها ومقدراتها والتدخل ضد إرادة الشعوب الأفريقية عن طريق فرض الأنظمة الموالية لها، فضلًا عن الفشل في مواجهة التنظيمات الإرهابية، وزيادة العمليات الإرهابية بعد تدخلها، زاد من حالة الاستقطاب تجاه فرنسا.
وأشارت الشعراوي، إلى أن الصين أصبحت تهدد الوجود الفرنسي في مناطق نفوذها، حيث تعد الصين أكبر شريك تجاري رئيسي لقارة أفريقيا، ومستثمرا بارزا في مشروعات البنية التحتية والتعدين، فضلًا عن عزم بكين، إنشاء قاعدة عسكرية في غينيا الاستوائية ما يمنحها أول وجود بحري دائم لها في المحيط الأطلسي، ويهدد بشكل واضح الوجود الفرنسي في غرب القارة.