سياسة الرئيس ماكرون ووزير داخليته الجديد «كاستنير» في معالجة الملف الإسلامي في فرنسا، تسير في اتجاه التنكر للنموذج الجمهوري الاندماجي.
في مقال منشور بصحيفة «لوفيجارو»، اعتبر الفيلسوف الفرنسي ووزير التربية الأسبق «ليك فري»، أن سياسة الرئيس ماكرون ووزير داخليته الجديد «كاستنير» في معالجة الملف الإسلامي في فرنسا تسير في اتجاه التنكر للنموذج الجمهوري الاندماجي الفرنسي، باعتماد مسلك التعددية الثقافية المألوف في الليبرالية الأنجلوسكسونية.
الليبرالية من دون الهوية الفردية الحرة والمستقلة ناقصة، ويمكن أن ترتد إلى نمط من الاستبداد الخفي بسيطرة السلط المجموعاتية القاهرة لإرادة الأفراد، بيد أن الذرية الفردية ليست سوى وهم، ذلك أن البشر لا ينفصلون عن هوياتهم الجماعية التي تختزن تقاليدهم المعيارية التي لا يمكن أن تستبدل بالتشريعات الإجرائية
إلا أن «فري» يرى أن التحولات التي عرفها المشهد السياسي الفرنسي لا يمكن فهمها إلا بالرجوع لتركة «فكر 1968»، الذي كرس فلسفة الاختلاف والتشظي والتمييز الإيجابي والهويات الخصوصية، في مقابل مفهوم المجال العمومي الذي أسس المتخيل الثقافي للدولة القومية الفرنسية.
ما ينبه إليه «فري» هو أن هذا التصور يفضي إلى تحويل الثقافة إلى مفهوم عرقي وكيان وجودي ثابت، بدلاً من النظر إليها كهوية مجردة تتحدد وفق المشروع الجمهوري الاندماجي.
إن هذا المشروع يعاني حاليا أزمة جوهرية تتجلى في بعدين أساسيين؛ يبرز أحدهما في تركيبة المجتمع بما يَسِمُه من تنوع قيمي متزايد ناتج عن حركية الهجرة (العربية الإسلامية على الأخص)، ويبرز ثانيهما في تراجع المؤسسات العمومية المعبِّرة عن الهوية الجمهورية الجماعية.
والحال أن النموذج الفرنسي شكّل حالة فريدة في تجارب الحداثة السياسية الغربية، بجمعه بين مبادئ التنوير الليبرالي (قيم التسامح والحرية والتعددية) والهوية المؤسسية الاندماجية القوية للدولة المتعالية على اختلافات وتناقضات المجتمع الأهلي المتنوع. فإذا كانت الليبرالية الإنجليزية تأسست على أولوية مبدأ الحرية الذاتية الفردية على الدولة المختزلة في دور الحكم الصوري الأداتي بين الإرادات الفردية المتعارضة، في حين قام النموذج الأمريكي على مبدأ المساواة بمفهومها الحقوقي القانوني، فإن الديمقراطية الفرنسية اختزنت دوماً النَّفَس الثوري الراديكالي، أي فكرة التغيير المجتمعي الجوهري عن طريق العقل العمومي لا الحرية في دلالتها الفردية غير المتعينة.
والواقع أن الإشكال المطروح هنا يتعلق بالجدل الليبرالي الداخلي بين تقليدين عبّر عنهما الفيلسوف الكندي «تشارلز تايلور» بالتقليد الإجرائي التحديدي المحايد تجاه التعددية المعيارية (لوك وهيوم وهوبز) والتقليد التعبيري المرتكز على الأصالة والذاتية الثقافية القيمية (مونتسكيو وروسو). التقليدان ينتميان للتيار الليبرالي على اختلافهما في المرجعية والخلفيات، ويرى أحدهما أن مبدأ الحرية والتعددية يقتضي استبدال معايير الخير الجوهري بالإجراءات الصورية التنظيمية في سياق أطروحة دنيا للعدالة التوزيعية، ويرى الاتجاه الآخر أنه لا سبيل لفصل الفرد عن محيطه القيمي والمعياري الذي يربطه بهويات جماعية لا انفكاك منها.
الليبرالية من دون الهوية الفردية الحرة والمستقلة ناقصة، ويمكن أن ترتد إلى نمط من الاستبداد الخفي بسيطرة السلط المجموعاتية القاهرة لإرادة الأفراد، بيد أن الذرية الفردية ليست سوى وهم، ذلك أن البشر لا ينفصلون عن هوياتهم الجماعية التي تختزن تقاليدهم المعيارية التي لا يمكن أن تستبدل بالتشريعات الإجرائية ومنطق التعاقد المصلحي.
إن هذا التوتر الداخلي في المنظومة الليبرالية قد أفضى إلى المشكل الجوهري المتعلق بدائرة الإجماع التوافقي في الحقل السياسي المؤسس على مبدأ التنوع وآلية التنافس الحر. وقد برز هنا مفهومان للإجماع: الإجماع الجمهوري؛ أي فكرة القيم الكونية المشتركة للأمة التي هي حصيلة مسارها التنويري التحديثي بما نلمسه في السياق الفرنسي في ثلاثية «الجمهورية -العلمانية -القومية»، وفي السياق الأمريكي في مقولة «الديانة المدنية» التي لخص فيها «ألكسيس دي توكفيل» النموذج الأمريكي، والإجماع التركيبي المتولد عن التوافقات المؤقتة والنقاشات العمومية المفتوحة الذي جعل منه الفيلسوف الأمريكي «جون رولز» الإطار الوحيد للإجماع داخل مجتمع تعددي حر.
ما يتعين التنبيه إليه هو أن النموذجين الليبرالي والجمهوري كلاهما يعاني اليوم من تحديات عصية في صياغته لنمط التوافق الجماعي، بما يبرز في ظواهر ثلاث يتزايد الاهتمام بها حاليًّا في الفكر السياسي: انفجار الهويات الخصوصية، وطغيان النزعات الشعبوية، وتراجع المؤهلات السيادية للدولة القومية.
أما الظاهرة الأولى فيمكن استجلاؤها في اتجاهين متعارضين: عودة الانتماءات الإثنية والدينية العتيقة التي تتم إعادة إنتاجها على الأصح في سياقات راهنة ولو بتوظيف الرأسمال الرمزي القديم خارج أطره المرجعية الأصلية، والاعتراف بحقوق هوياتية جديدة لمجموعات خصوصية من منظور الحقوق الثقافية المعاصرة التي هي من حقوق المواطنة.
أما الظاهرة الثانية فتعكس أزمة المدونة الليبرالية من حيث هي تعارض منطق الحريات الفردية والتعاقد المدني في المحطة الراهنة من توسع المنظومة الرأسمالية الكونية، مع اعتبارات الانتماء الجماعي الثابت والصلب كما تعبِّر عنها الحركات الشعبوية الصاعدة.
أما الظاهرة الثالثة فتعكس أزمة المجال العمومي الذي أصبح عصيًّا على التفكير والضبط، نتيجةً لتراجع القوة السيادية للدولة القومية التي لم تعد في غالب الأحيان قادرةً عن التعبير عن الإرادة المشتركة للكل الجماعي.
إن هذه الظواهر العميقة هي الخلفية الحقيقية لأزمة الاندماج في المجتمعات الليبرالية الحالية، ومن الخطأ اختزالها في مشكل الهجرة العربية الإسلامية وتأثيرات المعطى الديني الإسلامي الجديد في النسيج الثقافي المتنوع لهذه المجتمعات.
نقلا عن "الاتحاد"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة