«سباق الإليزيه».. «السلحفاة» تصطدم بـ«وجه جديد» في «مضمار اليسار»
قبل أقل من عامين على الانتخابات الرئاسية، تظهر فرنسا ككرة ضخمة من المنافسة، يتصارع فيها الجميع على تذكرة دخول قصر الإليزيه.
فيمين الوسط يتحرك بقوة لمواجهة أقصى اليمين، لكنه يحمل في داخله شقاقًا وسباقًا على بطاقة الترشح، تمامًا كما يحمل الأخير بذور صراع بين الزعيمة التاريخية مارين لوبان وتلميذها جوردان بارديلا.
وفي اليسار، تتنافس شخصيتان متناقضتان تمامًا على الترشح لمنصب الرئاسة، بهدف منع أقصى اليمين بقيادة مارين لوبان أو بارديلا من الفوز بالمنصب في عام 2027.
إذ تدور معركة علنية شديدة بالفعل بين الراديكالي من المدرسة القديمة جان لوك ميلانشون، ورافائيل غلوكسمان الأكثر اعتدالًا والمؤيد لحلف شمال الأطلسي "الناتو"، قبل 17 شهرًا من الانتخابات.
ويتوقع العديد من المراقبين الذين يتابعون السباق الرئاسي أن عمق العداء بين الرجلين، في حال استمراره، قد يؤدي إلى مزيد من الانقسام في اليسار، مما يقوض إمكانية الفوز في عام 2027.
لكن سيناريو تغلب أحدهما على الآخر تمامًا قد يقلب الدفة قبل الانتخابات ويمنح اليسار فرصة للمنافسة، وفق مجلة "بوليتيكو" الأمريكية.
صراع صفري
وقال إروان ليستروهان، مدير الأبحاث في معهد استطلاعات الرأي الفرنسي "Odoxa": "أظهرت الانتخابات الرئاسية السابقة أن مرشحين اثنين من اليسار لا يمكنهما التعايش دون التسبب في مشاكل لبعضهما البعض".
وميلانشون هو يساري متشدد يبلغ من العمر 74 عامًا ترشح للرئاسة 3 مرات، وكاد أن يصل إلى الجولة الثانية في عام 2022 بحملة دعا فيها إلى رفع الحد الأدنى للأجور، وخفض سن التقاعد إلى 60 عامًا، والانسحاب من حلف شمال الأطلسي.
أما غلوكسمان، البالغ من العمر 46 عامًا، فهو عضو في البرلمان الأوروبي ومؤيد قوي لتعزيز القوة العسكرية لأوروبا، ومنفتح على خفض الإنفاق العام بمليارات اليوروهات من أجل إعادة ترتيب المالية العامة الفوضوية لفرنسا.
ونظرًا لهذه الخلافات الأيديولوجية، لم يكن من المستغرب أن تتحول نبرة المنافسة إلى تبادل الاتهامات.
وفي مدونته، وصف ميلانشون غلوكسمان بأنه "متعصب" و"الطفل المدلل لفراغ وسائل الإعلام". فيما رد غلوكسمان على وسائل التواصل الاجتماعي وفي المقابلات بوصف ميلانشون بأنه "وطني زائف".
وخلال الأسابيع الأخيرة، أشارت استطلاعات الرأي المتتالية إلى أن أقصى اليمين قد يواجه مرشحًا يساريًا في جولة الإعادة في ربيع عام 2027.
فيما قال ليستروهان: "هناك احتمال قوي لوصول مرشح يساري إلى الجولة الثانية".
وبالنسبة لميلانشون أو غلوكسمان، سيكون الوصول إلى الجولة الثانية لحظة تاريخية، إذ سيكون لديهما فرصة ليس فقط للفوز بالرئاسة، بل أيضًا لتشكيل مستقبل اليسار الفرنسي والانضمام إلى أمثال جان جوريس وفرانسوا ميتران؛ رموز التقدمية في البلاد.
لكن الأرجح في الوقت الحالي هو احتمال أن يصبحا أول مرشحين رئاسيين في تاريخ فرنسا الحديث يخسران أمام أقصى اليمين، إذ لم يسبق للأخير أن فاز بالرئاسة.
الجولة الثانية
ولا يبدو أن أيًا من الرجلين في طريقه للفوز في الجولة الثانية ضد بارديلا من حزب التجمع الوطني "أقصى اليمين" الذي يُعتبر مرشحًا محتملا بسبب حظر لوبان، وفق استطلاعات الرأي.
وقبل عام ونصف من التصويت، يبدو أن غلوكسمان هو المرشح الأقوى في الجولة الثانية.
وفقًا لاستطلاع أجرته مؤسسة "Odoxa" ونُشر الأسبوع الماضي، يتجه الرجل لخسارة الجولة الثانية أمام بارديلا بفارق 8 نقاط فقط، لكن ميلانشون لن يحصد سوى 26% أمام المنافس نفسه (74%).
ووفق الاستطلاع ذاته، يبدو أن جميع المرشحين المحتملين من التحالف اليميني الوسطي الحاكم حاليًا لا يملكون فرصة لعبور المرحلة الأولى، باستثناء إدوار فيليب، أول رئيس وزراء في عهد الرئيس إيمانويل ماكرون، رغم أن أرقامه في استطلاعات الرأي قد انخفضت بشكل مطرد خلال العام الماضي.
ونظرًا لضيق الفارق في استطلاعات الرأي مع بارديلا، يرى غلوكسمان فرصة للظفر بالرئاسة.
ويبدو الرجل مقتنعًا بأن اليسار يمكنه الفوز من خلال استعادة المعتدلين والاشتراكيين السابقين الذين هجروا التيار لصالح حركة ماكرون الوسطية في عام 2017.
إذ أظهر استطلاع أجرته مؤسسة إيبسوس أن غلوكسمان تمكن من جذب 17% من الناخبين الذين صوتوا سابقًا لماكرون، عندما قاد قائمة مشتركة مع الحزب الاشتراكي اليساري الوسطي وحصل على المركز الثالث في الانتخابات الأوروبية الأخيرة في عام 2024.
في غضون ذلك، يعتقد ميلانشون أن الأصوات الحاسمة تكمن في المناطق الحضرية للطبقة العاملة، حيث لا يُقبل الناس عادة على التصويت.
ووفقًا لفلسفته القائمة على التقدم البطيء والثابت، يحب ميلانشون أن يطلق على نفسه لقب "السلحفاة الانتخابية" ويحتفظ بتماثيل لهذا الحيوان ذي القوقعة الصلبة في مكتبه.
ويبدو أن هذا اللقب واقعي، إذ زاد اليساري الراديكالي من حصته من الأصوات في كل انتخابات رئاسية على الرغم من طبعه الحاد.
مزايا وعيوب
لكل من هذين النهجين مزاياه وعيوبه.
وفي هذا السياق، قال ليستروهان إن ميلانشون قد يتضرر من صورته كشخصية مثيرة للانقسام.
وأضاف ليستروهان: "أما بالنسبة لرافائيل غلوكسمان، فإن ضعفه ينبع أكثر من حقيقة أنه لا يزال غير معروف نسبيًا، وأننا لا نعرف بعد مدى قدرته على خوض الحملات الانتخابية، والترويج للأفكار، وقبل كل شيء، فرض نفسه في مواجهة المعارضة".
وقد بدأت هذه المخاوف بشأن غلوكسمان تنتشر بالفعل داخل صفوف الحزب الاشتراكي. ورغم أن الحزب دعم الرجل في آخر انتخابات أوروبية، فإن فكرة الترويج لمرشح من خارج الحزب قد أثارت شكوك بعض الاشتراكيين.
وبعد غياب إعلامي دام أسابيع، عاد غلوكسمان إلى الأضواء الشهر الماضي عندما شارك في مناظرة ضد السياسي البارز من أقصى اليمين إيريك زمور.
واعتبر أداء غلوكسمان مخيبًا للآمال على نطاق واسع، بل إن الرجل اعترف بأنه "كان بإمكانه أن يؤدي بشكل أفضل".
وقال مستشار اشتراكي معارض لترشيح غلوكسمان لـ"بوليتيكو": "هناك سيناريو يمكن أن يتحول فيه كل هذا إلى كابوس"، مضيفًا: "سوف يُسحق غلوكسمان على يد وحش سياسي مثل ميلانشون. لكن لا توجد أي فرصة للأخير للتفوق على بارديلا".
نبوءة
في الواقع، على الرغم من أن ميلانشون يتمتع بدعم قاعدة مؤيدة مخلصة، إلا أنه يحظى بأعلى نسبة من الآراء السلبية بين جميع السياسيين الفرنسيين، حتى أكثر من ماكرون، ويتعرض للتشويه من قبل خصومه، ما يضعف فرصه في الفوز بالرئاسة.
وفي يناير/كانون الثاني 2012، عندما أطلق ميلانشون حملته الرئاسية الأولى، تنبأ بأن "الأمر في النهاية سيكون بيننا وبينهم"، في إشارة إلى صراع انتخابي بين اليسار وأقصى اليمين.
ويرى أنصار حزب "فرنسا الأبية" الذي يقوده ميلانشون أن هذه النبوءة تتجه للتحقق في الانتخابات الرئاسية المقبلة، وأن الأخير قادر على الحسم.
في المقابل، يرى يساريون آخرون الوضع بشكل مختلف، إذ كتب أوريليان روسو، عضو البرلمان عن حزب "Place Publique"، عبر "إكس": "كنا نعلم ذلك، ولكن الآن أصبح الأمر واضحًا سياسيًا: يمكن لحزب الجبهة الوطنية الفوز في الانتخابات الرئاسية".
قبل أن يضيف: "على اليسار، الخط الذي يتبناه غلوكسمان هو الوحيد القادر حاليًا على قيادة المعركة".
aXA6IDIxNi43My4yMTYuMTExIA==
جزيرة ام اند امز