الصدع السياسي في فرنسا يزلزل «أرض المعركة».. هزيمة قبل الطلقة الأولى؟
في واقعٍ جيوسياسي معقد، وبينما تستعد فرنسا في الطليعة الأوروبية لمواجهة انفجار محتمل، يبدو أنها بصدد هزيمة قبل الطلقة الأولى.
وتشهد فرنسا انقساماً سياسياً عنيفاً كاد يعطّل تشكيل الحكومة، لكن يبدو أن الخلاف طال مناطق أكثر حساسية، إذ أثارت تصريحات رئيس أركان الجيوش الفرنسي، الجنرال فابيان ماندون، موجة غضب واسعة بين الأحزاب السياسية المعارضة في فرنسا عندما صرّح بأن البلاد يجب أن "تقبل بفقدان أبنائها".
وكان رئيس الأركان يتحدث في مؤتمر عمد فرنسا، معبّراً عن ضرورة استعادة القوة المعنوية استعداداً لدفع ثمن التضحية في حال اندلاع حرب في أوروبا.
وهذه ليست المرة الأولى التي يشير فيها مسؤولون في فرنسا إلى احتمال الانزلاق نحو مواجهة عسكرية أوسع، غير أن تكرار التحذيرات الرسمية والدعوات إلى الاستعداد يعكس تصاعد القلق من تداعيات الحرب في أوكرانيا وإمكانية تمددها لتشمل دولاً أوروبية أخرى.
وقالت شبكة "فرانس 24" الإخبارية إن السلطات الفرنسية تحاول منذ أشهر تهيئة الرأي العام لاحتمال مواجهة عسكرية، في ظل توترات جيوسياسية متزايدة مرتبطة بالحرب في أوكرانيا وتداعياتها الإقليمية والدولية، إلا أن هذا الخطاب لا يزال يواجه صعوبة في الوصول إلى مجتمع يشعر بالبعد عن ساحة المواجهة ويعول على مظلة الردع النووي.
لكن تصريحات ماندون أشعلت جدلاً واسعاً في الفضاء العام وعلى شاشات القنوات الإخبارية، حيث رأت قوى معارضة أن الخطاب الرسمي يمهّد نفسياً لحرب محتملة، متهمة الرئيس إيمانويل ماكرون بالتورط في تصعيد خطير مع روسيا.
وسارعت أحزاب المعارضة للمعسكر الرئاسي إلى التنديد بهذه التصريحات، متهمة ماكرون بالتحضير للحرب.
واعتبرت كتلة "فرنسا الأبية" البرلمانية (اليسار الراديكالي) في بيان أنه "لا ينبغي لرئيس أركان الجيوش أن يقول مثل هذا الكلام"، بينما علّق فابيان روسيل، زعيم الحزب الشيوعي: "هل 51 ألف نصب تذكاري لقتلى الحروب في بلدياتنا لا يكفي؟ نعم للدفاع الوطني، لكن لا لخطابات دعاة الحرب".
من جهته، قال لويس أليو، عن التجمع الوطني (أقصى اليمين)، إنه "يجب أن يكون المرء مستعداً للموت من أجل بلاده (...) لكن يجب أن تكون الحرب عادلة (...) أو أن تكون الضرورة بحيث يكون بقاء الأمة نفسه على المحك".
وأضاف: "لا أعتقد أن هناك الكثير من الفرنسيين المستعدين للذهاب والموت من أجل أوكرانيا".
في المقابل، رأت وزيرة القوات المسلحة كاترين فوتران أن الجنرال فابيان ماندون "يملك كامل الشرعية للتعبير عن التهديدات"، معتبرة أن تصريحاته "أُخرجت من سياقها لأهداف سياسية"، بحسب صحيفة "لوموند" الفرنسية.
ومنذ العملية العسكرية الروسية لأوكرانيا، تعتمد السلطات الفرنسية، على غرار حكومات أوروبية أخرى، خطاباً متكرراً لشرح حالة عدم الاستقرار المتزايدة التي تسببت فيها طموحات موسكو والمواقف المتقلبة للحليف الأمريكي.
وتلخص "المجلة الوطنية الاستراتيجية لعام 2025"، وهي خارطة طريق للسلطات، الوضع بالقول إن فرنسا يجب أن "تستعد لفرضية انخراط كبير عالي الشدة في محيط أوروبا في أفق 2027-2030، بالتوازي مع ارتفاع هائل في الهجمات الهجينة على أراضيها".
وبشكل أوسع، تحاول السلطات أيضاً تعزيز قدرة المجتمع على تجاوز أزمة محتملة.
ومن المقرر أن تنشر الحكومة خلال أيام دليلاً بعنوان "في مواجهة المخاطر"، يضم نصائح للتعامل مع طيف واسع من التهديدات، من الفيضانات إلى الهجمات الإلكترونية وصولاً إلى الحروب.
ورغم أن 64% من الفرنسيين يخشون امتداد النزاع العسكري إلى فرنسا (استطلاع "إيلاب" في مارس/آذار 2025)، فإن كثيرين منهم لا يزالون يشعرون بأنهم بعيدون عن الحرب.
من جانبها، قالت الباحثة بينيدكت شيرون: "بما أن فرنسا كانت ساحة معركة خلال الحربين العالميتين، وما تزال آثار ذلك واضحة، يجب أن نفهم أن تمثّل الحرب لدى الفرنسيين يظل مرتبطاً بشكل كبير بفكرة غزو الأراضي"، بحسب شبكة "فرانس 24" الإخبارية.
وتضيف أن تصريحات الجنرال ماندون تأتي في سياق "انعدام ثقة قوي تجاه السلطات السياسية"، معتبرة أن الفرنسيين "يجدون صعوبة في قبول فكرة إشراك القوات بشكل واسع ودفع ثمن ذلك — قتلى، جرحى، كلفة اقتصادية — لأسباب غير حماية الأراضي من غزو".
وترى بينيدكت شيرون أن "هذه الأفعال الهجينة لا تقارن بما يواصل الفرنسيون اعتباره، عن صواب أو خطأ، على أنه الحرب الحقيقية".
وأكدت: "في الوضع الراهن، مستويات الاضطراب التي تتجاوزها هذه الأفعال ليست عالية بما يكفي، ولا من شأنها أن تدفع الفرنسيين إلى قبول القيود التي تفرضها عملية تعبئة عامة".
أما فيما يخص تصور الردع النووي، فقد يكون مضللاً، وتوضح الباحثة هيلواز فاييه، المختصة في الردع النووي بالمعهد الفرنسي للعلاقات الدولية: "الردع النووي لا يمكنه حمايتنا من كل التهديدات، فهو لم يُصمّم لهذا الغرض، خلافاً لما قد يعتقده السكان".
وأضافت: "لذلك تبقى المرونة والقوات التقليدية ضرورة لا غنى عنها".
وتابعت قائلة إن "الردع النووي لن يمنع تسلل الطائرات المسيّرة، أو أعمال التخريب أو حملات التضليل"، أي كامل طيف ما يُسمى بالهجمات الهجينة.
aXA6IDIxNi43My4yMTYuMTIwIA==
جزيرة ام اند امز