فرنسا وإرهاب الساحل.. تغيير أحجار الشطرنج لمحاصرة علبة الخطر
تغيير في أحجار الشطرنج من مالي إلى النيجر، استراتيجية فرنسية جديدة للتكيف مع التطورات ومحاصرة ظاهرة الإرهاب بالساحل.
وفي الوقت الذي تعالت فيه أصوات "أفريقيا للأفريقيين" في بعض المستعمرات الفرنسية السابقة على رأسها مالي وبوركينافاسو، إلا أن العارفين بحقيقة الأوضاع الأمنية بمنطقة الساحل تحديدا يؤكدون أنها "سياسة نظرية أكثر منها واقعية" في ظل عجز دول المنطقة عن مجابهة ظاهرة الإرهاب التي تمددت وتوسعت وتوحشت بالقارة السمراء في العقد الأخير.
المبررات الموضوعية
عجز قد تكون له مبرراته الموضوعية بحسب الخبراء الأمنيين، مثل افتقار جيوش دول منطقة الساحل للوسائل العسكرية الحديثة التي تفرضها الحرب على الإرهاب، عكس ما تتوفر عليه جيوش القوى العظمى بينها فرنسا الهاضمة لتاريخ وجغرافيا المنطقة.
- فرنسا تبدأ من النيجر رسم استراتيجية مستقبلية ضد الإرهاب بالساحل الأفريقي
- أزمة تتصاعد.. مالي تعلّق المناوبات العسكرية للبعثة الأممية
بالإضافة إلى التضاريس الفريدة لمنطقة الساحل، كونها مناطق صحراوية شاسعة لا يعرف إحداثياتها إلا أصحاب الأرض ممن يحفظون حبات رملها ومساراتها، وقد تكون تلك نقطة قوة الجماعات الإرهابية الناشطة بالمنطقة أكثر من قوتها في العدة والعتاد.
أما العامل الثالث الموضوعي الذي أبرزه الخبراء الأمنيون في صعوبة الحرب على الإرهاب بمنطقة الساحل، فهو غياب مقاربة أمنية إقليمية واضحة المعالم في دحر الجماعات الإرهابية ومحاصرتها، رغم جهود التنسيق الثنائية ومتعددة الأطراف التي عرفتها المنطقة خصوصاً منذ سقوط نظام الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي سنة 2011، وتدهور الأوضاع الأمنية بمالي.
وكل ذلك وسط خلافات إقليمية "غير معلنة وأخرى معلنة" وتضارب أولويات الأمن القومي لدول المنطقة، تجعل من توحيد الجهود الإقليمية لمواجهة الإرهاب أقرب إلى المعجزة الشبيهة بمتاهات الصحراء.
مركز الثقل الأمني
مالي يُعرفها المختصون على أنها مركز ثقل منطقة الساحل الغنية بالثروات الثمينة مثل الذهب واليورانيوم، لكن انفلات الأوضاع الأمنية بها منذ عقد كامل وتوالي الانقلابات العسكرية بها وعدم الاستقرار السياسي، جعلها "مغناطيساً جاذباً للجماعات الإرهابية" حتى من خارج القارة مثلما هو الأمر مع تنظيم "داعش" الإرهابي، وهو التجاذب الذي تسارعت وتيرته منذ سقوط نظام القذافي وما نتج عنه من انتشار للسلاح الليبي الذي وقع في أيدي الجماعات الإرهابية والناشطة في الجريمة المنظمة.
الأكثر من ذلك باتت مالي "مركز تفريخ للجماعات الإرهابية" المتصارعة على النفوذ مثلها مثل القوى العظمى، ما جعل منطقة الساحل والصحراء رهينة حسابات دولية ظاهرها أمني وسياسي وباطنها اقتصادي وربحي.
وفي الوقت الذي تؤكد فيه الأخبار والتقارير الدولية تزايد الهجمات الإرهابية في الساحل في أوج التواجد الفرنسي والأوروبي والأمريكي، فكيف إذا سحبت قواتها من المنطقة؟
وفي سنة 2021، ضربت 15 دولة أفريقية أزيد من 70 عملية إرهابية على الأقل خلفت مقتل أكثر من 60 ألف شخص خلال أشهر السنة السوداء بالقارة السمراء.
وذكرت تقارير معاهد دراسات إقليمية السنة الماضية، بأن شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي سجل أثقل حصيلة ضحايا للهجمات الإرهابية بأفريقيا، بـ559 ضحية، جزء من هذا الرقم فقط نتيجة اضطرابات داخلية في بعض الدول.
وجاءت منطقة غرب أفريقيا والساحل في المركز الثاني بعد شرق القارة من حيث عدد ضحايا العمليات الإرهابية في 2021، وهي المنطقة المعروفة بكثافة نشاط وعمليات تنظيمات "داعش" و"القاعدة" و"بوكو حرام" الإرهابية.
ووفق دراسة بحثية للدكتور جليل لوناس، الباحث الجزائري وأستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالجامعة الأمريكية في المملكة المغربية، حصلت عليها "العين الإخبارية" في وقت سابق، فقد تصدرت مالي والنيجر وبوركينافاسو منطقة دول القارة الأفريقية من حيث عدد التنظيمات الإرهابية والجماعات المتفرعة عنها والمتمركزة في 3 دول وهي مالي وبوركينافاسو والنيجر، بواقع 7 تنظيمات إرهابية.
ويتعلق الأمر بـ"جماعة نصرة الإسلام والمسلمين"، و"أنصار الدين"، و"جبهة تحرير ماسينا"، و"المرابطون"، و"إمارة الصحراء" التابعة لما يسمى بـ"تنظيم القاعدة ببلاد المغرب".
بالإضافة إلى تنظيمين إرهابيين آخرين تقول الدراسة إنهما من أكبر التنظيمات الإرهابية بالساحل، وهما: "أنصار الإسلام" و"تنظيم داعش في الصحراء الكبرى".
تلك المعطيات الأمنية أكدت ورفعت المخاوف من "استفراد" الجماعات الإرهابية بجيوش دول المنطقة وأهاليها المنهكة أصلا بالصراعات الداخلية وقلة الإمكانيات المادية واللوجيستية والأزمات الاقتصادية، وغياب مقاربات أمنية صارمة وشاملة محلية في كل دولة لمجابهة جماعات متمرسة في حروب العصابات والشوارع والرمال.
استراتيجية الساحل
ما يعزز هذه الفرضيات أيضا، هو دخول قوى دولية أخرى على خط الصراع على نفوذ المنطقة لكن "ممن يجهلون تضاريسها" و"لا يتقنون لغة صراعاتها" المتوارثة من أكثر من 7 عقود، على رأسها روسيا التي باتت لاعباً بارزا في الساحل عموماً ومالي تحديدا.
كلها معطيات دفعت باريس إلى تغيير استراتيجيتها في الحرب على الإرهاب بالساحل، من خلال إعادة انتشار قواتها ونقل قواتها من مالي إلى النيجر وتشاد.
استراتيجية متعددة الأبعاد -بحسب خبراء الأمن- بدأت بـ"التكيف" مع المتغيرات الحاصلة بالمنطقة عقب قرار المجلس العسكري الحاكم بمالي (مركز ثقل القوات الفرنسية بالساحل ومعقل الجماعات الإرهابية بالساحل) إلغاء الاتفاقيات العسكرية مع فرنسا وشركائها الأوروبيين مطلع مايو/أيار الماضي.
وهو التكيف الذي تجلى في مساعي فرنسا لسحب قواتها من مالي بحلول نهاية الصيف الحالي، وإعلانها إعادة انتشار جنودها من الجار الشرقي لمالي وهي دولة النيجر التي كان لها نصيب كبير بالسنوات الأخيرة في دفع ضريبة تدهور الأوضاع الأمنية بجارتها الغربية مالي والشمالية ليبيا.
إعادة انتشار يراه مراقبون على أنه خطة عسكرية فرنسية بديلة لمحاصرة الجماعات الإرهابية المتغولة بالمنطقة، وفي المقابل، ترْك السلطات العسكرية في مالي أمام اختبار مواجهة قوة جماعات إرهابية لا تختلف عن قوة الجيوش النظامية من داعش والقاعدة بفروعها المتحالفة والمتصارعة، ما يعني أن منطقة مالي باتت أمام فراغ أمني جديد قد يكون الأكبر من الفراغ العسكري المحلي لقوة عسكرية (فرنسا) تفقه جيدا في تكنولوجيا الحرب على إرهاب المنطقة، وفي أسرار أرضها ومن عليها.
ويعتقد بعض الخبراء الأمنيين من المنطقة، أن رضوخ فرنسا للانسحاب من مالي ليس إلا طعماً قد يصطاد لاعبين جدد بالمنطقة، خصوصاً مجموعة "فاغنر" الروسية التي وإن كانت تملك أسلحة متطورة، إلا أنها تفتقد -وفق الخبراء الأمنيين- خبرة المواجهة العسكرية مع تنظيمات إرهابية متمرسة في الصحاري، وتجهل في المقابل تعقيدات الصراعات والتحالفات الموجودة بينها.
ترتيبات الرحيل
أمس الجمعة، بدأ مسؤولون فرنسيون رفيعو المستوى، زيارة رسمية إلى دولة النيجر، على رأسهم وزيرة الخارجية الفرنسية الجديدة كاثرين كولونا ووزير الدفاع سيباستيان ليكونوا وكبار ضباط الجيش الفرنسي لإتمام عملية إعادة انتشار إقليمية.
ووسط تزايد النفوذ الروسي في المنطقة، تسعى فرنسا لإعادة ترتيب بيت المنطقة ونفوذها بعد الانقلابات العسكرية التي عرفتها دول بالمنطقة في العامين الأخيرين على رأسها مالي والنيجر وبوركينافاسو والتي كانت مدعومة بتحركات شعبية غاضبة من تردي الأوضاع الأمنية، آملة في أمن طال أمده، لكنه التردي الذي ازداد توهجاً من خلال التزايد المثير في الهجمات الإرهابية بهذه الدول.
وتستعد باريس لنقل 2400 من جنودها من مالي إلى النيجر وتشاد، وسط مخاوف محلية وأوروبية من أن يؤدي ذلك إلى تزايد وتيرة العنف وتمدد الجماعات الإرهابية ويكون وقودا جديدا لطوفان هجرة أفريقية نحو أوروبا.
وصرح مسؤولون فرنسيون للصحفيين بأنه سيتم إرسال بين 300 و400 جندي للقيام بعمليات خاصة مع قوات من النيجر في المناطق الحدودية مع بوركينافاسو ومالي.
ويتوقع أن تتمركز ما بين 700 إلى ألف جندي فرنسي آخرين في تشاد مع عدد لم يكشف النقاب عنه من أفراد القوات الخاصة العاملة في أماكن أخرى بالمنطقة.
وقال نفس المصدر إن القوات الفرنسية لن تقوم بعد الآن بمهام أو تلاحق المسلحين في مالي بمجرد اكتمال الخروج، بحسب وكالة الأنباء الفرنسية.
عبء ثقيل
رغم الانتقادات المحلية أو الهواجس التي عبرت عنها الأنظمة الجديدة ببعض دول الساحل إزاء الوجود العسكري الفرنسي بالمنطقة، إلا أن ما حققته القوات الفرنسية بالشراكة مع دول المنطقة في حربها على الإرهاب سيتحول في نظر خبراء أمنيين "مصدر عبء قادم" على دول المنطقة لقيادة الأمن، بعد أن يُحدث انسحابها من مالي فراغاً أمنيا رهيباً قد تكون ارتداداته أخطر من المتوقع.
وكانت آخر عملية عسكرية نوعية للقوات الفرنسية بمالي التي جرت في 15 يونيو/حزيران الماضي، نجم عنها اعتقال أكبر رأس إرهابي لتنظيم "داعش" في مالي وهو "أمية ولد البقاعي" زعيم تنظيم داعش الإرهابي في الصحراء الكبرى، خلال عملية عسكرية نفذتها قوات "برخان" وفق بيان لهيئة الأركان الفرنسية.
ورقة الجزائر
إذا كانت الجزائر القوة الإقليمية الأكبر في المنطقة قد أبدت اعتراضها على "الانفراد الفرنسي بالقرار الأمني" في منطقة الساحل المتاخم لأكبر جزء من حدودها، وبأنه تواجد عسكري "يخدم مصالح باريس"، وهي المتوجسة من التواجد العسكري الأجنبي على حدودها.
إلا أن خبراءها الأمنيين (الجزائر) يؤكدون أن "انسحاب فرنسا بشكل راديكالي" من مالي قد تكون له ارتدادات أمنية أقوى أو غير متوقعة على الجزائر تحديدا والمنطقة عموما"، وهو ما تأكد أكثر من خلال تكثيف الجيش الجزائري مؤخرا مناوراته العسكرية على حدود مالي التي "تحاكي مواجهة عدو غير تقليدي" في إشارة للجماعات الإرهابية.
ومن هنا، فقد فُهم على أن إصرار الجزائر وباريس على التنسيق الأمني والسياسي حول الوضع في الساحل، يؤكد 3 معطيات أمنية وفق الخبراء الأمنيين.
الأول هو توجس الجزائر على أمنها القومي من خروج لاعب قوي عارف بمخاطر المنطقة من مالي (فرنسا)، رغم أنه التواجد العسكري ذاته الذي كان أحد أسباب تأزم العلاقات بين البلدين.
والثاني هو تأكيد الجزائر رفض خروج جيشها خارج الحدود لمجابهة الخطر الإرهابي القادم من حدودها الجنوبية، وهو ما يعني أن التنسيق الاستخباراتي بين الجزائر وباماكو لن يكون كافياً لسد فراغ الانسحاب الفرنسي من الأراضي المالية، مقابل إعلان رسمي من قبل المؤسسة العسكرية الجزائرية عن رصدها تحركات كبيرة للجماعات الإرهابية على حدودها مع مالي.
والثالث هو أن تغيير فرنسا استراتيجيتها في مكافحة الإرهاب بالساحل من خلال إعادة نشر قواتها بالمنطقة يظهر بأنه لم يحدث إلا بعد تنسيق محكم بين الجزائر وباريس.
فرنسا سبق لها وأن "أثنت على دور الجزائر في استقرار أمن منطقة الساحل" وتعتبرها "الدرع الإقليمي المنيع في المنطقة"، في مقابل توفر معطيات أمنية للسلطات الجزائرية على أن بقاء التواجد العسكري الفرنسي بالمنطقة "ضرورة حتمية".
والدليل على ذلك -وفق قراءات أمنية وسياسية- هو قرار باريس نقل معظم قواتها من مالي إلى النيجر، ونيامي منذ تولي محمد بازوم مقاليد الحكم بها بات "بلدا حليفاً للجزائر" في المنطقة أكثر من السابق، ما يعني تقاطع المصالح الأمنية بين الجزائر وفرنسا أولا.
وثانياً، أن استراتيجية فرنسا الجديدة أو المتجددة في حربها على إرهاب الساحل تؤكد أن مقاربة باريس الأمنية تبقى الأكثر نجاعة وقدرة على محاصرة الظاهرة الإرهابية المتصاعدة بالمنطقة رغم تقاطع المصالح مع الدول الإقليمية أو تضاربها.