من «الانكفاء» لـ«الحوار».. «تحالف الساحل» يختبر استقلاله في مواجهة «إيكواس»

بعد أشهر من التصعيد والقطيعة، سجّل المشهد الإقليمي في غرب أفريقيا تحولا لافتا مع انعقاد أول لقاء مباشر بين تحالف دول الساحل ومفوضية الإيكواس، منذ أزمة الانسحاب.
اللقاء الذي جرى في العاصمة المالية باماكو، بدا ظاهريا كمصافحة دبلوماسية، لكنه في العمق كشف عن معادلة جديدة في هندسة العلاقات داخل غرب أفريقيا.
وفي الاجتماع الذي انعقد يوم الخميس في باماكو، عقد وزراء خارجية دول تحالف الساحل (AES) لقاءً مباشراً مع رئيس مفوضية الإيكواس، في إطار مشاورات أولية تمهّد لانطلاق مفاوضات رسمية بين الطرفين.
وقد ناقش الجانبان جملة من القضايا ذات الاهتمام المشترك، من بينها التعاون الأمني، الجوانب السياسية والدبلوماسية، والمسائل القانونية والتنموية، في ظل انسحاب دول تحالف الساحل من الإيكواس مطلع هذا العام.
وأسفر الاجتماع عن اعتماد محضر مشترك يتضمّن خلاصات النقاشات وتوصيات لإطلاق المفاوضات المستقبلية، مع تأكيد الطرفين على أهمية الحفاظ على مكتسبات التكامل الإقليمي، وعلى رأسها حرية تنقل الأشخاص والبضائع. كما عبّر الجانبان عن قلقهما المشترك إزاء تدهور الوضع الأمني، واتفقا على ضرورة تعزيز التعاون في مكافحة الإرهاب.
واعتبر محللون سياسيون في أحاديث منفصلة مع "العين الإخبارية"، أن الاجتماع لم يكن مناسبة للتراجع عن الانسحاب بقدر ما كان محاولة لإعادة صياغة العلاقة بين الطرفين.
فوزراء خارجية الدول الثلاث قدموا تقريرا إلى رئيس التحالف يوضح نتائج اللقاء مع مفوضية الإيكواس، وهو ما يعكس نشوء هيكل تفاوضي من داخل التحالف، للتعامل مع الهيئة الإقليمية كطرف نِدّي، لا كمنظمة أم.
الانكفاء ومسارات بديلة
ورغم تأكيد الجانبين على التعاون العاجل لمكافحة الإرهاب، فإن الاجتماع ارتكز على ركيزتين واضحتين: استكمال ترتيبات الانسحاب، والنظر في صيغة مستقبلية جديدة للتعاون.
صيغة لا تعيد الدول المنسحبة إلى بيت الطاعة الإقليمي، بل تحافظ على تماسكها كتحالف مستقل.
وهو ما أشار إليه الخبير السياسي الفرنسي أوليفييه ديسبوا، من معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية IRIS، في حديث مع "العين الإخبارية".
ويرى ديسبوا أن "الإيكواس باتت اليوم كيانا متصدعا، غير قادر على التكيف مع التغيرات السياسية المتسارعة في المنطقة، خصوصا في ظل الموجة الانقلابية التي طالت مالي وبوركينا فاسو والنيجر، حيث فضّلت هذه الدول الانكفاء على ذاتها وتشكيل مسارات بديلة بدلًا من الرضوخ لضغوط العقوبات والتدخلات".
وأضاف "عندما تتحول المنظومة الإقليمية إلى أداة عقابية تُستخدم بإملاءات خارجية، فإنها تفقد مشروعيتها لدى الشعوب والنخب السياسية، وهو ما حصل تحديدا في ملف النيجر بعد الانقلاب الأخير"
بديل فعّال أم هروب للأمام؟
وبالنسبة للباحثة الفرنسية لورانس مونييه من مركز مؤسسة البحث الاستراتيجي، فإن "تحالف دول الساحل (AES) لا يزال في مراحله الأولى".
مستدركة "إلا أن التحالف يعكس طموحا واضحا لطرح نموذج بديل يتميز بقدر أكبر من المرونة والاستقلالية في مواجهة الإرهاب، من خلال الاعتماد على الجيوش الوطنية بدلا من القوات الأجنبية أو بعثات حفظ السلام التي أثبتت محدودية فعاليتها على الأرض".
بيْد أن الرهان هنا يبقى- بحسب الباحثة الفرنسية- على "القدرة الذاتية، والرسالة التي يريد التحالف إيصالها وهي: نستطيع حماية أنفسنا دون وصاية، لكن ذلك يبقى مشروطا بإصلاح داخلي عميق وتنسيق فعّال بين الدول الثلاث، وهذا ليس مضمونا في ظل الهشاشة الأمنية والضغوط الاقتصادية".
اختبار الاستقلال ومخاطر الانعزال
التحالف الجديد يروّج لاستراتيجية قائمة على السيادة الكاملة في القرار الأمني والعسكري، مع خطوات فعلية في طرد بعض القوات الأجنبية، ومراجعة الاتفاقيات مع شركات خارجية، كما حصل مؤخرًا في قطاع النفط بالنيجر.
وهنا، تساءلت الباحثة السياسية الفرنسية:" هل تملك هذه الدول الإمكانيات البشرية والمادية اللازمة لقيادة المرحلة القادمة؟.
واتفق الخبيران مونييه و ديسبوا، على أن هذا النموذج يمكن أن يشكّل حالة "مختبرية" لمفهوم الاستقلال الاستراتيجي في أفريقيا، لكنه أيضا يحمل في طياته مخاطر الانعزال وضعف التنسيق مع الفاعلين الدوليين.
نهاية النفوذ الإقليمي؟
ورأت مونييه أن الانفصال التدريجي عن الإيكواس، والانفتاح المحتمل على حلفاء جدد مثل روسيا أو تركيا، يُظهر أن تحالف الساحل يعيد رسم خارطة التحالفات في غرب أفريقيا، ويضع الإيكواس أمام اختبار وجودي حقيقي.
في المقابل، قال أوليفييه ديسبوا: "نحن أمام تحول عميق، قد لا يكون كاملاً بعد، لكنه بالتأكيد يؤذن بنهاية مرحلة وبداية أخرى، عنوانها الأبرز: منظومات بديلة تقودها دول الجنوب، لأجل الجنوب، وبمعزل عن الشمال".
نفوذ متآكل
وخلال السنوات الأخيرة، يقول مراقبون إن الإيكواس "بدت عاجزة عن تقديم حلول فعّالة أمام تعقيدات الأوضاع في دول الساحل"، خصوصا بعد الانقلابات العسكرية المتكررة في مالي (2020 و2021)، بوركينا فاسو (2022)، والنيجر (2023
وأثار تمسك الإيكواس بفرض العقوبات والتلويح بالتدخل العسكري حفيظة أنظمة ما بعد الانقلابات، التي رأت في هذه السياسات انحيازا للأنظمة السابقة ومساسا بالسيادة الوطنية.
وهو ما تطرق له الخبير الأفريقي الفرنسي ديدييه بيرتون، من معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية IRIS، في حديث لـ"العين الإخبارية".
وقال بيرتون إن "الإيكواس فقدت بشكل ملحوظ قدرتها على الوساطة، وتحولت إلى أداة ضغط إقليمي تعكس مصالح قوى خارجية أكثر مما تعبّر عن إرادة شعوب المنطقة".
تحديات وطموحات
ورأى بيرتون أنه من هذا السياق، انبثق تحالف الساحل الأفريقي الجديد كنواة جديدة تتبنى مقاربة مغايرة في مكافحة الإرهاب، ترتكز على الجيوش الوطنية لا على التدخلات الأجنبية أو بعثات الأمم المتحدة، التي فشلت في الحد من تمدد الجماعات المتطرفة.
مضيفا «السؤال ليس فقط عن السيادة، بل عن القدرة. هذه الدول أظهرت إرادة سياسية، لكن غياب الموارد والتنسيق يجعل من الصعب تحقيق أمن شامل دون دعم خارجي أو بديل استراتيجي».
واعتبر أن «الفرصة الوحيدة لبقاء التحالف حيويا تكمن في بناء تحالفات بديلة مع قوى مثل روسيا أو الصين، وهو ما بدأت بعض العواصم تجربته فعلا"
ورغم ما تحمله تجربة ائتلاف الساحل الأفريقي الجديد من طموحات، إلا أن نجاحها سيظل مرهونا بقدرة الدول الأعضاء على تنسيق الجهود بشكل فعلي، وتجاوز الصعوبات الاقتصادية، وتعزيز ثقة الشعوب المحلية.
كما يبقى اختبار الميدان، لا سيما في مواجهة الجماعات المتطرفة، هو المعيار الحقيقي لمدى فاعلية هذا التكتل. بحسب الخبير نفسه.
aXA6IDIxNi43My4yMTYuNDYg
جزيرة ام اند امز