لا تزال مسألة بناء الجسور وهدم الجدران بين البشر حول كوكبنا الأزرق تأخذ حيزا كبيرا في تفكير البابا فرنسيس
كعادته كل عام التقى الحبر الأعظم البابا فرنسيس بابا روما أعضاء السلك الدبلوماسي المعتمدين لدى الكرسي الرسولي، والذي يعد دولة لها استقلالها الخاص وتمثيلها الدبلوماسي مع بقية دول العالم.
يجيء لقاء العام الجاري للبابا فرنسيس وراء جدران الفاتيكان والعالم في أحوال يراها البعض شبيهة بأجواء ما قبل الحرب العالمية الأولى، فيما يحاجج البعض الآخر بأن معطيات الحاضر قريبة جدا من محفزات الحرب الكونية، وفي كل الأحوال يمكن القول إن هناك عالما يحتضر، وعالما جديدا يولد، لكن الولادة بالفعل متعثرة، ولهذا يبقى القديم مرئيا، أما الجديد فمعالمه غائبة وغائمة، الأمر الذي يقتطع من مسافات ومساحات الرجاء لصالح هواجس اليأس وغياب الأمل.
لا تزال مسألة بناء الجسور وهدم الجدران بين البشر حول كوكبنا الأزرق تأخذ حيزا كبيرا في تفكير البابا فرنسيس، ولهذا تحدث عن زيارته خلال العام المنصرم ثلاث من دول أوروبا الشرقية، أي بلغاريا ومقدونيا الشمالية ورومانيا، وتحدث عن أن ما يجمع هذه الدول رغم الاختلافات كونها كانت عبر القرون جسورا بين الشرق والغرب وتقاطع طرق للإثنيات والحضاراتفي هذا السياق يدرك المرء لماذا افتتح فرنسيس حديثه مع سفراء العالم بالكلام عن الرجاء، تلك الفضيلة التي تعتبر أساسية بالنسبة للمسيحيين، وبالقطع لكل أصحاب الإيمان والأديان التوحيدية أو الوضعية.
ذهب فرنسيس إلى أن الرجاء يتطلب واقعية، وإدراكا للمشاكل الراهنة والتحديات الموجودة في الأفق، كما يؤكد بابا روما على حتمية الشجاعة في مواجهة مشاكل عالمنا المعاصر، مع العلم أن الإنسانية من وجهة نظره ما تزال تحمل علامات الجراح التي ألمت بها نتيجة الحروب المتعاقبة.
هل علينا أن نفقد الأمل مع التطورات الجيوبوليتيكية المتعاقبة، وعودة العالم إلى سياسات الأحلاف والمحاصصات السياسية والمناطقية، الطائفية والمذهبية؟
يؤلم الرجل ذو الثوب الأبيض أشد الإيلام أن يكون ضحايا الصراعات من الفقراء والضعفاء حول العالم، وينبه إلى أن هؤلاء هم أول من يدفع الثمن، ما رأيناه قولا وفعلا متمثلا في الساعين للهجرة ليغرقوا في اليم تارة، وليلفظوا من جماعات اليمين وأنصار القوميات تارة أخرى.
وسط ظلام المشهد الكوني الحاضر يوقد فرنسيس شموع الأمل في النفوس، باعتباره أن الشر والألم لن تكون لهم الغلبة يوما ما، ومؤكدا أن الرجاء هو الفضيلة التي تحملنا على السير قدما، وتعطينا الأجنحة عندما تبدو العراقيل صعبة التجاوز.
ضمن القضايا العديدة التي توقف فرنسيس معها في كلمته أمام السفراء المعتمدين، أشار بنوع خاص إلى زيارته في فبراير/شباط الماضي دولة الإمارات العربية المتحدة، وإلى وثيقة الأخوة الإنسانية التي وقعها مع فضيلة الشيخ أحمد الطيب شيخ الجامع الأزهر.
من جديد أكد فرنسيس أن الوثيقة ترمي إلى تعزيز التفاهم المتبادل بين المسيحيين والمسلمين والتعايش في مجتمعات متعددة الأعراق والثقافات، وبعد أن قدم لمحة عن أبرز ما جاء في الوثيقة أكد أنه من الأهمية بمكان أن تُربّى أجيال الغد على الحوار ما بين الأديان، بغية تعزيز التعارف والتفاهم والدعم المتبادل بين أتباع مختلف الديانات.
كما لفت البابا بعدها إلى زيارته للمغرب؛ حيث وقّع على إعلان مشترك مع العاهل المغربي بشأن مدينة القدس، للتشديد على المعنى الروحي والدعوة الخاصة التي تتميّز بها مدينة السلام.
هل يعد فرنسيس مفاجأة خاصة للشرق الأوسط في العام الجاري 2020؟
ليس سرا أن هناك الكثير من الأخبار المتعلقة بنية الحبر الأعظم الدخول كوسيط بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ومحاولة حلحلة المشهد التفاوضي المتأزم بين الجانبين.
فرنسيس غير مهموم أو محموم بكتابة اسمه في سجل القياصرة، لكنه يعمل جاهدا من وراء الكواليس على تشجيع الأطراف المتناحرة على الجلوس إلى مائدة التفاوض، ومن ثم التوصل إلى صيغة عادلة لسلام كثيرا ما تكلم عنها الكرسي الرسولي، وتتمثل في دولتين مستقلتين تعيشان في أمن وأمان بجوار بعضهما بعضا.
فكر فرنسيس وشاغله الحقيقي يتجه اليوم إلى القدس وإلى الأرض المقدسة، حاثا الجماعة الدولية على تجديد التزامها في عملية السلام الإسرائيلية الفلسطينية، بشجاعة وصدق وفي إطار احترام القانون الدولي هذا أولا.
ثانيا، توقف فرنسيس عند ما يجري في سوريا، مؤكدا أنه من المهم التوصل إلى حلول ملائمة وبعيدة النظر تسمح للشعب السوري الحبيب، الذي أنهكته الحرب، بأن يستعيد السلام ويعمل على إعادة بناء البلاد.
كان من الطبيعي ألا يخلو خطاب فرنسيس من الحديث عن واحدة من أهم أزمات عالمنا المعاصر، أي أزمة المناخ العالمي والحرب الإيكولوجية المنطلقة بتشجيع من أصحاب المصالح الرأسمالية الأممية، ومن دون أن يلتفت أحد إلى كارثيتها، وما تولده من حروب ونزاعات يمكنها أن تذهب بسلام العالم في الحال والاستقبال.
ثم أشار البابا فرنسيس إلى دول مثل السودان، معربا عن الرجاء أن يتمكن شعبها من العيش في سلام ورخاء والتعاون من أجل النمو الديمقراطي والاقتصادي، ما يعني أن القارة السمراء لم تغب عن فكره طوال العام الماضي.
لا تزال مسألة بناء الجسور وهدم الجدران بين البشر حول كوكبنا الأزرق تأخذ حيزا كبيرا في تفكير البابا فرنسيس، ولهذا تحدث عن زيارته خلال العام المنصرم ثلاثا من دول أوروبا الشرقية، أي بلغاريا ومقدونيا الشمالية ورومانيا، وتحدث عن أن ما يجمع هذه الدول رغم الاختلافات كونها كانت عبر القرون جسورا بين الشرق والغرب وتقاطع طرق للإثنيات والحضارات.
وتابع أنه اختبر خلال هذه الزيارات مجددا أهمية الحوار وثقافة اللقاء من أجل بناء مجتمعات سلمية، وواصل البابا مشددا من جهة أخرى على أهمية دعم الحوار واحترام الشرعية الدولية لحل ما توصف بالنزاعات المجمَّدة في القارة الأوروبية، مشيرا إلى سبيل المثال إلى الأوضاع في غرب البلقان وجنوب القوقاز.
وفي ختام كلمته إلى أعضاء السلك الدبلوماسي المعتمدين لدى الكرسي الرسولي، أراد البابا فرنسيس التذكير بالرسام الشهير رافاييلو سانسيو، والذي مر 500 عام على وفاته، وتحدث عن قدرة هذا الفنان على بلوغ تناغم بين المواد المختلفة، وقال قداسته إن الدبلوماسية مدعوة بدورها إلى بلوغ تناغم بين خصوصية الشعوب والدول المختلفة، وذلك لبناء عالم يتسم بالعدالة والسلام.
هل تتحقق أمنيات فرنسيس للعام الجديد؟
نأمل أن يكون ذلك كذلك.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة