جاءت وثيقة الأخوة الإنسانية لتنقل العلاقة بين البشر من مرحلة الحوار إلى التعايش، ومن عالم التسامح والتصالح إلى بناء الإنسانية الموحدة
يبقى من المؤكد جدا أن عام 2019 وشهر فبراير/شباط منه على وجه الدقة سوف يظل يذكر بالكثير من الزهو والفخر لدولة الإمارات العربية المتحدة، فقد جمعت على أرضها في ذلك النهار الطيب أقطاب الإسلام والمسيحية، ممثلين في بابا الكنسية الكاثوليكية البابا فرنسيس، وشيخ الأزهر الشريف الدكتور أحمد الطيب، وفي ظل رعاية "عيال زايد" خرجت إلى النور واحدة من أهم الوثائق التي غيرت وستغير الكثير جدا من معالم وملامح التعايش المشترك بين أتباع الأديان الإبراهيمية، وبقية أصحاب الشرائع الوضعية، شرق أوسطيا وعالميا، في السنين والعقود القادمة لا شك في ذلك.
تكريس الرابع من فبراير/شباط من كل عام يوما للأخوة الإنسانية، حتما سيتحول سريعا إلى يوم دولي، وسيكون لدولة الإمارات العربية المتحدة الفضل الجزيل في ظهور وارتقاء هذا الحدث الكبير، الذي كان وسيظل رمزا لتلاحم إنساني موضوعيجاءت وثيقة "الأخوة" الإنسانية لتنقل العلاقة بين البشر، من مرحلة الحوار إلى مرحلة التعايش، ومن عالم التسامح والتصالح إلى فعل بناء الإنسانية الموحدة، وقد ظهرت إلى العالم في توقيت ازداد فيه الشرخ الإنساني، وتعمقت الصراعات مرة جديدة أيديولوجيا ودوجمائيا، واكتشف الجميع أن العولمة وعوضا عن أن تجمع باتت تفرق، وبدلا من أن تشرح فوجئ الجميع بها تجرح، وحدث الارتداد غير الخلاق، لتصعد الشعبويات من جديد، وتتعالى صيحات القوميين والشوفينيين، ومن الطبيعي في مثل هذه الأجواء أن يجد الأصوليون سوقا رائجة لبضائعهم حتى وإن كانت رديئة ومنحولة.
لم يكن طريق وثيقة الأخوة الإنسانية مجرد استعراض إعلاني أو إعلامي، بل فعل تغيير جوهري، ممتد عبر الزمان، ما يترك أفضل الأثر في السعي عبر دروبه من قبل الأجيال القائمة والقادمة.
في هذا السياق يتفهم المرء اقتراح البابا فرنسيس وإمام الأزهر الدكتور الطيب الأيام القليلة المنصرمة، أن يكون الرابع من شهر فبراير/شباط من كل عام يوما عالميا للأخوة.
نحن أمام تحرك إيجابي وخلاق، يريد أن يغير وجه العالم المتصارع والمتصادم، وإرادة من رجالات الأديان لرأب الصدع الذي أصاب الإنسانية منذ الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 بنوع خاص، هذا التحرك تمثل في الرسالة التي وجهها المجلس البابوي للحوار بين الأديان إلى الأمين العام للأمم المتحدة انطونيو جوتيريس، والذي أعرب عن استعداده، كما طلبت الرسالة أيضا مشاركة الأمم المتحدة للكرسي الرسولي والأزهر الشريف، تنظيم قمة عالمية حول الأخوة الإنسانية في المستقبل القريب.
يمكن القطع بأن الرسالة التي أرسلت إلى الأمين العام للمؤسسة الأممية تستنهض إرادة المجتمع الدولي لتجسير الفجوات التي ظهرت من جراء متغيرات ومنحنيات سياسية وأمنية، اقتصادية واجتماعية، طفت على سطح الأحداث العقدين الماضيين، وسببت حالة من الاهتراء في النسيج الإنساني الواحد للبشرية، وتأتي المذكرة الخاصة بمجلس الحوار كإفراز للجنة العليا التي تم تشكيلها لتحقيق أهداف الوثيقة، تلك اللجنة التي تتكون من مختلف الديانات السماوية، أي من أتباع الأديان المشكلين لأكثر من نصف عدد البشرية فوق الكرة الأرضية.
الذين لهم دالة على فهم رؤى وتوجهات البابا والإمام يدركون إدراكا عميقا أن التوجه الأساس للقامتين الدينيتين يتمحور حول تعظيم الرجاء الإنساني عبر الحوار والجوار، وتفعيل دور الأديان عبر الزمان والمكان، بوصف المعتقدات الإيمانية والعقائدية منصات انطلاق جوهرية للوصول إلى الآخر، في إطار من المودات الإنسانية وليس الصراعات والحروب الوحشية.
خلال زيارته الأخيرة إلى اليابان كان فرانسيس يشدد على أهمية الحوار، ودوره في حماية الكرامة البشرية وحماية البيت المشترك أي الكرة الأرضية، ومضيفا أن التاريخ يعلمنا أن النزاعات بين الشعوب والأمم، حتى أكثرها خطورة، يمكن أن تجد حلولا جيدة من خلال الحوار وحده، فهو السلاح الوحيد الجدير بالكائن البشري والقادر على ضمان سلام دائم.
يذهب الحبر الروماني إلى أن "العلاقات الجيدة بين الأديان المختلفة ليست أمرا أساسيا فقط من أجل مستقبل سلمي للعالم، بل أيضا لتنشئة الأجيال الحالية والقادمة على تثمين المبادئ الأخلاقية التي تشكل أساس مجتمع عادل وإنساني بالفعل".
ولعل من أجمل وأهم العبارات التي وردت في متن وثيقة الأخوة الإنسانية ما نصه: "يدفعنا القلق المشترك حول مستقبل العائلة البشرية إلى تبني ثقافة الحوار دربا، والتعاون المشترك سبيلا، والتعارف المتبادل نهجا وطريقا".
تضعنا وثيقة الأخوة الإنسانية أمام حقائق مؤكدة، تزداد الحاجة إليها في عالمنا المعاصر، وفي المقدمة منها ضرورة أن تكون كرامة الإنسان في مركز كل نشاط اجتماعي أو اقتصادي أو سياسي، الأمر الذي يؤدي إلى تعزيز التضامن بين الأجيال والاهتمام بالمنسيين والمستبعدين، كما أن حضارة كل بلد أو شعب لا تقاس بالقوة الاقتصادية بل بمدى اهتمامه بالمعوزين وقدرته على أن يكون معززا بالحياة.
يمضي الفاتيكان من ناحية والأزهر الشريف من ناحية أخرى في مد جسور الوصل الإنساني، وتعزيز قيم الحياة لا الموت، والنماء لا الفناء، الأمر الذي تبين جليا من تصريحات فضيلة الإمام الطيب قبل عدة أيام خلال لقائه "وفد الآلية الأفريقية لمراجعة النظراء"، حين أشار إلى أن الأزهر قاد العديد من المبادرات المحلية والدولية لمناهضة العنف، ومكافحة التطرف في أفريقيا والعالم، منها المبادرة مع بابا الكنيسة الكاثوليكية التي توجت بتوقيع وثيقة الأخوة الإنسانية، لتأكيد براءة الأديان التامة من التطرف والإرهاب.
تكريس الرابع من فبراير/شباط من كل عام يوما للأخوة الإنسانية، حتما سيتحول سريعا إلى يوم دولي، وسيكون لدولة الإمارات العربية المتحدة الفضل الجزيل في ظهور وارتقاء هذا الحدث الكبير، الذي كان وسيظل رمزا لتلاحم إنساني موضوعي، وإنهاء مرحلة حيادية الأديان، وزخما لانخراطها الخير والمغير لوجه البشرية، ومجابهة الشرور والمعاثر التي تعيق تقدم بني البشر صفا واحدا.
الخلاصة.. وثيقة الأخوة.. نعم للجسور لا للجدران.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة