إصلاح التعليم سيستلزم دراسة معمقة لقيم المجتمع، والعمل بصورة جدية وشاملة واستراتيجية لتقوية مواطن القوة في ثقافة المجتمع
من الضروري أن نؤكد بداية أن تجارب الإصلاح والتطوير التي تتم دون دراسة معمقة للواقع، واستشراف نافذ للمستقبل، واستعراض للتجارب السابقة، ومعرفة مواطن فشلها، هذه التجارب المستعجلة قد تؤدي على المدى القصير إلى مظاهر نجاح، وثمار تطور، وعوائد سريعة، ولكنها على المدى البعيد تؤدي إلى كوارث، وانهيارات اجتماعية، وهنا لا بد من دراسة التنمية والتحديث في العالم العربي والإسلامي، وكيف أدى كثير منها إلى نتائج سريعة غاية في التقدم والرقي، ولكنها أسست لكوارث اجتماعية جاءت بعد ذلك.
أنتجت عمليات فرض نماذج التحديث المتسارعة على المجتمعات العربية والإسلامية إحداث انشطار في البنية الاجتماعية، حيث انقسم المجتمع إلى تيارين؛ أحدهما يتبنى تلك النماذج الجديدة ويدعو لها، والآخر يرفض، ويقاوم، ويتمسك بالتقاليد المتوارثة، ولذلك كان الانقسام الاجتماعي انقساماً حاداً يفتقد إلى العقلانية أو الرشد
فالتعليم الذي يقوم على سياسة الفصل بين التعليم الحديث، وبين التعليم الديني أو التقليدي؛ أي إنشاء مدارس حديثة؛ تتبنى مناهج تعليم غالبا ما تكون مستوردة من دول أخرى، وفي الوقت نفسه يتوازى مع هذه المدارس الحديثة نمط تعليمي تقليدي مغرق في التاريخ، والتراث، وغائب بصورة كبيرة عن العصر. بالتأكيد سوف يؤدي ذلك إلى انشطار المجتمع، وحدوث حالة من ازدواجية الثقافة؛ بل ازدواجية المجتمع فيصبح المجتمع مجتمعين، والثقافة ثقافتين، ويتحول المجتمع إلى حالة من المواجهة الداخلية العميقة، التي أفرزت بعد ذلك جماعات العنف السياسي، وحركات العمل المسلح والإرهاب، وعلى الجانب الآخر أدى ذلك إلى ظهور حركات علمانية، وماركسية، ولا دينية عنيفة واستئصالية أيضا. وكل ذلك يرجع في معظمه إلى عمليات التحديث المتسارعة التي تفتقد إلى التوازن والشمول.
فقد أنتجت عمليات فرض نماذج التحديث المتسارعة على المجتمعات العربية والإسلامية إحداث انشطار في البنية الاجتماعية، حيث انقسم المجتمع إلى تيارين؛ أحدهما يتبنى تلك النماذج الجديدة ويدعو لها، والآخر يرفض، ويقاوم، ويتمسك بالتقاليد المتوارثة، ولذلك كان الانقسام الاجتماعي انقساماً حاداً يفتقد إلى العقلانية أو الرشد، وينحدر إلى مستوى الحرب الأهلية الثقافية التي يسعى كل طرف فيها إلى نفي الآخر والقضاء عليه.
وقد أدت هذه الحالة إلى عمليات متراكبة من التشويه والتدهور في كلا النسقين؛ سواء المُتبنى أو الموروث، حيث تم التركيز في كليهما على المظاهر والقشور وأطراف المواقف، وضاع العدل والتوازن في الرؤية في ذلك الصراع الاجتماعي الذي لا نهاية له في ظل المعادلة القائمة على الثنائية والحدية.
وقد أدى ذلك إلى إحداث حالة من الارتباك في المجتمع والدولة على السواء يفقدان بسببها الوجهة والاتجاه، ويسلكان نتيجة لها مسالك تعكس حالة دفاعية تحركها ردود الأفعال، والاستجابات التلقائية للأحداث؛ أكثر من أن تحركها رؤية حضارية تربط الحاضر بالمستقبل؛ مسترشدة بتجربة الماضي.
وهذه الحالة من الارتباك والتشويش تؤدي إلى عدم استقرار سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي حيث ينتقل المجتمع من النقيض إلى النقيض، وحيث لا تؤتي الظواهر الاجتماعية ثمارها، ولا يسمح لها بأن تفرز نتائجها لفقدانها الاستقرار الزمني، والنضج الطبيعي من خلال مفاعلات اجتماعية ثقافية زمنية تلقائية، ودون تسريع أو تسرع. والناظر في تجارب الدول الإسلامية مثل إيران وتركيا، وتونس وباكستان ومصر منذ محمد علي، يلحظ أنها تمثل نماذج متنوعة لهذه الفرضية؛ إذ جميعها شهد، أو لم يزل يشهد الانتقال من نموذج تحديثي إلى آخر دون أن يحقق أهدافه في أي منها، ما جعل هذه الدول أشبه بحقول التجارب لغير غاية، وبلا هدف من التجربة، إذ لم تخرج أي حالة منها بنتيجة تمثل دحضاً للنظرية التي تم تبنيها وتطبيقها.
تأسيساً على السابق تكون النتيجة المنطقية هي إهدار طاقات المجتمع الفردية والمؤسسية، وتفريغها في صراعات داخلية متوهمة، أو في محاولات مردودها ضئيل أو سلبي في كثير من الأحيان، وبذلك تفقد هذه المجتمعات فرصة النمو مرتين، مرة عندما أهدرت طاقاتها، واُستنفذت جهود أبنائها، وتساقطت العقود من تاريخها دون أن تنجز شيئاً، أو تحقق نقلة نوعية في اجتماعها أو اقتصادها، ومرة ثانية عندما تشوهت هياكلها وبنيتها، وأصبح من الصعب أن تستجمع شتات نظمها المجتمعية لتعاود استئناف دورتها الحضارية، وصار من العسير عليها البدء بصورة متوازنة مستقرة من النقطة التاريخية المعاصرة صوب المستقبل، إذ إنها ستحتاج إلى سنوات قد تطول لتتجاوز الآثار السلبية لكونها حقلاً للتجارب ومعملاً لاختبار خطط وبرامج متناقضة.
وعلى العكس من هذا، فإن التجارب الناجحة للتحديث؛ مثل تجربتي اليابان وكوريا الجنوبية، تمت فيهما المزاوجة بين الوافد والأصيل، وبين التراث والعصر، بين ثقافة الغرب وثقافة الذات، ومن ثم تحولت الهوية اليابانية، أو الهوية الكورية إلى دائرة مركزها التراث والأصالة والذات والتقاليد، ومحيطها متمدد يستوعب كل ما أنتجه العصر دون توتر ودون شعور بالاضطراب أو القلق. ولعل دراسة هذه التجارب والاستفادة منها يمثلان مقدمة ضرورية لإنجاح تجربة تطوير التعليم في الدول العربية أو الإسلامية.
وعلى سبيل المثال، فإن إصلاح التعليم سيستلزم دراسة معمقة لقيم المجتمع، والعمل بصورة جدية وشاملة واستراتيجية لتقوية مواطن القوة في ثقافة المجتمع، والتخلص من مواطن الضعف؛ فقيم مثل التفاخر والتعصب، والتعالي على العمل اليدوي، والاتكالية على الغير، والرغبة في الكسب السريع واليسير، كلها قيم تحتاج إلى معالجة ثقافية في النظام التعليمي. كذلك قيم مثل الانتماء الأسري والعائلي، والكرم والصراحة واحترام الكبير وعدم المواجهة، كلها قيم إيجابية تحتاج إلى تقوية وتشذيب، ومن هنا فإن تطوير التعليم يستلزم دراسات اجتماعية معمقة لمختلف قضايا المجتمع وتكويناته.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة