هل هذه فرنسا حقا؟ هل خدعَنا أحدٌ بشيء لم نعرفه عنها؟ أم أنها تُلقي علينا نكتة ثقيلة الظل؟
فرنسا جان جاك روسو وإميل زولا وفيكتور هوجو وشارل بودلير وفولتير وألبير كامو ولويس أراغون وجان بول سارتر، ومئات غيرهم، تخوض الآن "أم المعارك"، ليس من أجل إنسانية أفضل، ولكن بكل بساطة، من أجل إنسانية أسوأ. إنها تخوض معركة ضد الحجاب.
تحت ستار الدفاع عن "القيم الفرنسية" و"الهوية الفرنسية"، و"العلمانية الفرنسية"، تخوض مرشحة اليمين الفرنسي، مارين لوبان، حربا ضد الحجاب. الكل يفهم أنها "حرب ضد الإسلام"، تتخذ من الحجاب حجابا. ولكن ما عَلاقة "الحجاب" بالقيم أو الهوية أو العلمانية الفرنسية؟
ولا واحد من تلك الأسماء الكبيرة، التي صنعت القيم والهوية والعلمانية الفرنسية، كتب سطرا عن الحجاب. ولا واحد على الإطلاق. ولا واحد منهم أيضا اتخذ من معاداة الإسلام أساسا لتقديم صورة أخرى لفرنسا. لم يكن الإسلام موضوعا على الإطلاق عندما رسمت فرنسا صورتها الحديثة.
ولكن ما يحصل الآن هو أن اليمين الفرنسي يريد إعادة تعريف القيم والهوية والعلمانية الفرنسية، لكي تكون أداة حرب تحوّل العلمانية إلى دين، وتتخذ من الإسلام عدوا لأنه كما يبدو لها أسهل الأهداف.
ما علاقة "فصل الدين عن الدولة" بالحجاب؟ المحجبات، وهنّ قلائل على أي حال، لسْنَ هُنَّ الدولة، ولا يتمشَّيْن في الشوارع بوصفهن رموزا للدولة، ولا هُن طالبْن الدولة بأي شيء.
تحتاج إلى "إعادة تعريف"، من قاع السطحية، لكي تقيم علاقة بين الحجاب والدولة، ومن ثم لكي تحوّل هذه العلاقة إلى حرب، أو إلى سبب من أسباب الانقسام الاجتماعي.
ولو أن الراهبات المسيحيات، وهنّ محجبات أيضا، سِرن في الشوارع بحجابهن، فهل تشعر "القيم الفرنسية" بأنها تعرضت للانتهاك؟ أو أن الدين عاد ليطغى على الدولة؟
ما علاقة الدولة بما يرتديه أو لا يرتديه الناس؟ وإذا كانت علمانية حقا، فما علاقتها بأي معتقد ديني أصلا؟
الحجاب قد يكون "رمزا" دينيا، ولكن يمكن النظر إليه على أنه "حرية شخصية". ويُفترض نظريا على الأقل أن تتساوى، بحسب القيم الفرنسية، من ترتديه مع التي ترغب في ارتداء أزياء تكشفها. صدر "التعددية" نفسه يجب أن يتسع للواتي يغطين صدورهن ولعاريات الصدور. أم أنه لا يتسع؟!
وماذا عن رموز الديانات الأخرى؟ الصليب المسيحي والقلنسوة اليهودية أو العمامة السيخية؟ هل سيكون من واجب "العلمانية الفرنسية" أن تحاربها في الشوارع أيضا، لتفرض على من يرتديها الغرامات؟!
الأسر المتدينة اليهودية ترتدي أزياء محافظة أيضا، ولا تخطئها العين في تمييزها للرجال والنساء معا. فماذا يجب أن تفعل "العلمانية الفرنسية" وفقا لتعريفها الجديد حيال هؤلاء؟
إذا كنا نريد أن نتحدث عن "القيم الفرنسية"، فقد صنعت حادثة النقيب ألفريد دريفوس، اليهودي الديانة، في أواخر القرن التاسع عشر، جانبا مهما من هذه القيم. البعض يمكنه القول إن مفهوم "المثقف" و"الثقافة" الفرنسي، هو نفسه يرتبط بهذه الحادثة. حتى يكاد من المستحيل أن تزعم أنك على أي صلة بالثقافة ما لم تأخذ من هذه الحادثة العبَر.
الأساس في الحادثة، التي هزت المجتمع الفرنسي وكادت أن تُسقط الجمهورية، هي أن البيئة المُعادية للسامية وجدت في النقيب "دريفوس" كبش فداء لتحميله مسؤولية الهزيمة في الحرب على أراضي الألزاس واللورين، التي ضمتها الإمبراطورية الألمانية عام 1871م.
اُتهم دريفوس بأنه كان جاسوسا، وأنه أرسل ملفات سرية إلى ألمانيا. فحوكم وتم نفيه إلى "جزيرة الشيطان"، ولكن ليس لأن الأدلة كانت ضده، بل لأنه يهودي. وبحسب العُرف السائد في ذلك الوقت، فكل يهودي "خائن وجاسوس".
الانقسام استعر في المجتمع الفرنسي، بين الذين يضمرون الحقد لليهود، ويعلقون حقدهم على دريفوس، وبين الذين اعتبروا الأمر "فضيحة أخلاقية للمجتمع الفرنسي نفسه". وبرغم أن الأدلة أظهرت أن الخائن كان ضابطا آخر هو فرديناند ويلسون ايسترازي، فإن القضاء العسكري تعمّد تبرئة الأخير، وأكد الحكم ضد "دريفوس".
كتب إميل زولا مقالته الشهيرة "أنا أتّهم"، واصطف من حولها المئات ممن صاروا يُعرفون بـ"المثقفين"، ليس من أجل الدفاع عن براءة دريفوس فقط، ولكن من أجل تصويب الخلل الأخلاقي في المجتمع نفسه.
إذا كنت لا تعرف فرنسا، فهذه هي فرنسا. إنها فرنسا الثقافة والقيم الإنسانية. فرنسا التي لا تقبل العار الأخلاقي الذي يتخذ من معاداة الدين ستارا للانتقام من أفراد.
اليوم يصنع اليمين الفرنسي من الحجاب "قضية دريفوس" ثانية، لكي يغطي بها معاداته للإسلام، ويخوض بها "أم معارك" جديدة.
فازت أم لم تفز، فمع نسبة التصويت العالية، التي يمكن أن تحققها "لوبان" في الانتخابات الرئاسية، فإن من حق الذين يعرفون فرنسا أن تصيبهم الدهشة مما يفعله اليمين بهذه البلاد. فكلما ظن المرء أن السقوط الأخلاقي يملك قاعا يستقر فيه، وجد أنه بلغ قاعا أدنى.
فهل يحتاج المجتمع الفرنسي إلى إميل زولا آخر لكي يوقف هذا الانهيار؟
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة