قد يظن البعض أن صناعة الدراما في العالم الغربي تهدف للمتعة والترفيه.
أو أن هوليوود وبوليوود تنفقان المليارات من أجل ملء أوقات الفراغ، أو التسرية عن النفوس الحزينة، أو تقديم القصص والحكايات.
الحقيقة أن الدراما هي أهم الصناعات الثقافية، التي تتخصص في صناعة الأفكار الكبرى ونشرها، وضمان سريانها وترسخها داخل عقول وقلوب أفراد المجتمع على اختلاف مراحلهم العمرية.
ففي الولايات المتحدة الأمريكية مثلا تمر صناعة الأفكار بمراحل دقيقة ومنظمة جدا، حيث تخرج الفكرة في مرحلتها الجنينية في صورة مقال صحفي، فإذا كانت جديرة بالاهتمام، تداولتها البرامج الحوارية في الإذاعات والتليفزيونات، فإن ثبت أنها تمثل قضية تستحق المتابعة تُكتب حولها أبحاث وكتب، فإذا تشكل حولها إجماع على أنها تمثل فكرة مركزية في ثقافة المجتمع تدخل هذه الفكرة في مناهج التعليم العام، فإذا رأت الطبقة الثقافية أنها فكرة حضارية مهمة تتحول إلى فيلم سينمائي، فإن استقر الرأي على أنها من أركان الحضارة وأعمدتها يحوز الفيلم على أوسكار.
أي إن الدراما هي قمة الصناعات الفكرية والثقافية، لأنها تعتمد على الصورة، والصورة هي الحقيقة، لأنه ليس من رأى كمن سمع، فالرؤية بالعين تقضي على أي فرصة للتخيل أو الشك، بخلاف السماع أو القراءة، حيث تزداد مساحة الخيال والشك، وإعادة التفسير مع السماع، وتصبح تلك المساحة بلا نهاية مع القراءة.
ولكن المشاهدة تقضي على كل تلك المساحة، وتجعل الحقيقة مطابقة لما تمت مشاهدته، لذلك تعتمد النخب الثقافية المؤثرة في الدول التي ترتفع فيها مساحة الوعي على الدراما لتشكيل ثقافة المجتمع، أو ثقافة العالم، كما الحال مع هوليوود، التي تعتبر أهم أسلحة الولايات المتحدة في قيادة العالم وتوجيهه الوجهة التي تريدها المؤسسة الحاكمة.
وهذا الأمر ينطبق على كل الصناعة من المسلسلات إلى الأفلام إلى الكارتون وبرامج الأطفال، جميعها يحمل رسائل محددة واضحة لمن أراد أن يفهم، فأفلام القط والفأر "توم وجيري" تتمحور حول الصراع بين المعرفة والقوة، بين الحكمة والعضلات، ولا تخلو من هيمنة رؤية عنصرية عليها، فالقط الأزرق متحضر، والقط الأسود مجرم عنيف يعيش في مقالب القمامة، وهذه الرؤية ترسخ واقعا اجتماعيا تاريخيا، لم يستطع المجتمع الأمريكي التخلص من سلبياته حتى تاريخ اليوم.
قبل سبع سنوات أعدت ابنتي الكبرى رسالة ماجستير في كلية الدراسات الأفريقية والشرقية بجامعة لندن، نشرتها مكتبة الإسكندرية بعد ذلك، وكان موضوعها: "إعادة كتابة التاريخ لإعادة تشكيل الهوية"، ركزت فيها على ما قامت به صناعة الدراما في مصر في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، من خلال الأفلام السينمائية، التي قدمت المرحلة الملكية في صورة معاكسة تماما لأهداف الثورة، ومبادئها في العدالة الاجتماعية، ومجتمع الإنتاج.
فقد اعتمد "عبد الناصر" على الدراما في صناعة مشروع قومي داخل مصر، وفي عموم الوطن العربي، وكانت الدراما أهم أسلحته في تحقيق مشروعه، الذي تكالبت عليه القوى الإقليمية والدولية حتى تم إجهاضه، ثم التخلص منه في عهد السادات، وبنفس الأسلوب.
الدراما أهم وسائل تشكيل الوعي الجمعي للمجتمعات، بغض النظر عن المحتوى المقدم فيها، فهي تشكل الوعي بالصورة السلبية، أو بالصورة الإيجابية، لأن لها قوة تأثير نافذة ولا تقاوم، ولذلك لا ينبغي أن يتم التعامل مع الدراما على أنها محايدة أو بعيدة عن السياسة، فهي في كل الأحوال سياسة، فهي تستهدف ضمن ما تستهدف الارتقاء للوعي الحقيقي المستنير الذي يُجلي الحقائق، وينير الطريق، ويرسم خطوط المستقبل.
الدراما سياسة في جمع صورها وأشكالها، حتى مسلسل "القط والفأر" هو في قلب تشكيل الوعي السياسي عند الأطفال.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة