الكشري -لمن لا يعرف- أكلة مصرية يختلط فيها الأرز بالعدس البني بالمكرونة مع إضافات مختارة من الحمص المسلوق والبصل المقلي.
وثلاثة أنواع أساسية من الصوص: الصلصة، وهي تسبيكة من الطماطم مع إضافات أخرى، الدَّقَّة: وهي خل بالثوم والكمون في الأساس، وثالثاً الشطة غارقة في زيت الشطة.
اختلاط الطعوم المتباينة يجعلها أكلة محببة لأصحاب أذواق مختلفة، لها -مثل البيتزا- قاعدة محايدة الطعم ثم إضافات. ويجعلها أيضاً مهمة شاقة الإعداد في المنزل، وأكثر رواجاً في المطاعم، حيث الإنتاج الضخم يجعل المجهود مستحقاً.
وأخيراً فهي طعام يصلح على مدار اليوم، وبالنسبة للمصريين المسيحيين يصلح على مدار السنة، لأنها أكلة "صيامي"، لا تدخل فيها منتجات حيوانية.
حتى الطعمية تجد من ينازع المصريين ملكيتها، أما الكشري، فعلى اختلاف تفسير الأصل الذي جاءت منه، فإنها في الوقت الحالي وجبة مصرية خالصة. لا تجدها في أي مكان آخر.
من السهل أن تجد طفلاً صغيراً أو شاباً لا يحب الطعمية، إما لذاتها أو بسبب اختلاط مكونات أخرى خارجية معها، كالطماطم وباقي مكونات السلطة، ومعها يأتي الخوف من الجراثيم لأنها مكونات باردة، أما الكشري فمن الصعب أن تجد من لا يحبه ما قبل سن الكهولة ومشكلات القولون.
هذا يجعل الكشري ثقافة وليس مجرد وجبة، لها إيجابيات على غرار ما يراه المحبون في القاهرة، أنها خليط غريب من مكونات متنافرة لكنها تنتج في الآخر نكهة فريدة وطعماً جذاباً وداعياً إلى المزيد منه، ولها سلبيات على غرار ما يراه من لا يحبون النمط القاهري، بسبب عشوائيتها القاتلة العصية على الفهم والقدرة على التعامل لغريب عنها، حتى لو كان هذا الغريب مصرياً قادماً من الصعيد أو الإسكندرية.
شيء لا يفهمه جسم الإنسان فيضطرب وينتفخ ويمرض.. إنْ قلتَ لمصري إن الوضع في القاهرة يشبه الكشري سيسألك: ودي حاجة حلوة ولا وحشة يا كابتن مدحت؟
يَجمع مطعم الكشري المصريين إذًا من كل الطبقات، ومن كل الطوائف.. وهذا شيء أدّعي أنه يتفرد به.
حين ينقل الإسلامجية المعركة الطائفية إلى مطعم كشري، لا يخرجون عن هدفهم الطبيعي في استهداف كل ما يجمع المصريين.. بمعنى آخر، محاولة إقصاء بعض منهم، والاستئثار بـ"المصرية" دونه، وحرمانه مما يحب في مصر عقاباً له على كونه لا يلتزم بما يفرضونه عليه.. يستوي في ذلك المسيحيون لأنهم لا يصومون رمضان "طبيعي يا أخي أنهم لا يصومون رمضان"، أو الفتيات المتزينات لأنهن لا يلتزمن بالزي الذي يريدونه، فيُحرمن السير في الشارع في أمان، أو حتى المسلمون الذين يتخذون لأنفسهم نمط عيش مختلفاً، فيتعقبهم بعض من الجيران بالمشكلات، وبعض من المارة بالمشاكسة.. هؤلاء أناس صار شعارهم الدعوة إلى الله بالمكايدة، ومخاصمة الحُسنى.
لكنهم أيضاً -أي الإسلامجية- يخلقون نمطاً موازياً للكشري في الدعوة الإسلامجية الحالية في مصر.. نمط عشوائي يستمد قوته من انعدام قانونه، من إمكانية إضافة أي شيء وتمريره، فتعجز عن التعامل معه تعاملاً منطقياً، لأن "سر الصنعة" موجود في أذهانهم فقط.. يقدمون لك طبق الدعوة على مزاجهم، متماثلاً، لا تملك كفرد أن تتحكم إلا في رتوشه، مليئاً بالمكونات الدقيقة في حجم حبة الأرز والعدس وأصغر، لن تستطيع أن تمسك ملقطاً وتتخفف من بعضها بنفسك.. يجب أن تطلب هذا من "مُعِد الطبق" لكي يتفضل عليك.
الامتناع عن تقديم وجبة كشري لأسرة مسيحية في رمضان فعل دالٌّ على أبعد منه، لكنه في النهاية يخص المطعم وسياسته، وأوقات عمله، أما اللافت فعلاً فهي الحملة التي يقودها "دُعاة الكشري" من المكايدة، والتشجيع على الإقصاء، فهذه تخص هوية الإسلام الحالي، الذي يتحدثون باسمه، وهو أمر يرتد علينا جميعاً أثرُه.
"غزوة الكشري" تشير إلى شيء آخر مهم.. أن المكايدة الإسلامجية ليست "حفاظاً على أخلاق الأمة" كما يُقال.. نحن لا نتحدث هنا عن أي من الشعارات الكبرى التي يرفعونها في وجهنا، بمبالغات اعتدناها، كألفاظ "الفُجر، الفسوق، العري، نشر الفاحشة، أو الخمر والمجون".. المكايدة غرضها فرض السيطرة ليس إلا، وفرض نمط واحد على الجميع ليس إلا، وتمكين سلطة اجتماعية تتحكم بلا سند من قانون في طبق الكشري، كما تتحكم في الدراما وتنزعج من "فاتن أمل حربي".
إن لم ننظر إلى الموضوع بهذا المعنى، فليس لذلك معنى إلا أننا لم نستفد شيئاً من أحداث العقود السابقة.. لم نتعلم أن من الممكن إخفاء السم في الكشري، وتمريره وسط تلك الغابة من المكونات والدعوات والألفاظ والمشهيات والتوابل.. إخفاء السم في "الكشري الثقافي" الذي نعيش فيه جريمة لا تظهر بالعين المجردة دائماً، لكنها جريمة شعبية، ستسمِّم الناس من جميع الطبقات والطوائف والأعمار.
نقلا عن الشرق الأوسط
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة