إذا كان مشروع السلام الإبراهيمي هو القوة السياسية الأبرز، التي تعيد تعريف الهندسة الاستراتيجية في الشرق الأوسط، فإن اختبارات التجديد الديني الجارية عندنا، هي المعادل الاجتماعي لها، وشريكتها في صناعة مستقبل هذه البقعة من العالم.
شهر رمضان "التليفزيوني" كان مناسبة لتظهير شراسة المعركة وعمقها، من خلال توظيف سلاح الدراما "قوةً ناعمةً"، يبدو أنها ترث تدريجياً قوة التأثير التي استحوذت عليها القنوات الإخبارية العربية الشاملة.
إنها لحظة تحول عميقة على مستوى إنتاج المحتوى وفهم سلوكيات المتلقي وأنماط الاستهلاك، تبني على نجاحات سابقة للدراما "والأغنية والمسرح السياسي والسينما" كواحدة من ميادين الصراع الاجتماعي والسياسي الفكري، لكنها تستفيد من مواقع التواصل الاجتماعي والمتابعة اللحظية للسجال الذي تثيره هذه الأعمال والرقعة الواسعة التي يحتلها السجال خارج الأطر النخبوية أو أسوار الإعلام التقليدي.
الأكثر إثارة، وربما الأكثر مباشرة، وحدة واستفزازاً، هو مسلسل "فاتن أمل حربي"، للكاتب المصري إبراهيم عيسى، الذي تقوم ببطولته الممثلة نيللي كريم، ويناقش المشكلات والعقبات القانونية التي تتعرض لها المرأة المُطلّقة، كالحضانة والنفقة.
لا يكتفي "عيسى" بنص يحاور المؤسسة السياسية أو القانونية في مصر، بل يذهب عبر حواراته، التي راجعها دينياً الدكتور سعد الدين الهلالي، إلى عمق التفريق بين العقيدة والفقه، كما بين النص القرآني وبين التفسيرات.
سبق لفاتن حمامة أن رصّعت سجلّها بواحد من أروع الأفلام المصرية على الإطلاق، بالشراكة مع رشدي أباظة، بعنوان "أريد حلاً"، الذي أنتجه صلاح ذو الفقار وأخرجه سعيد مرزوق، ويطرح مشكلات مشابهة لما يطرحه مسلسل "فاتن أمل حربي"، وإن بحدة أقل ومواربة أكثر.
قوة إبراهيم عيسى أنه يلكم على الوجه، لا على جوانب الجسد. يسدد في منطقة واضحة المعالم ليثير النقاش حول ما هو معتم أو مبهم. فحتى حين أثار "عيسى" احتجاج الأزهر، دون أن يرد اسمه في الاحتجاج، غلب على البيان الأزهري التحذير من "تشويه صورة عالم الدين في المجتمع"، و"تعمد تقديم عالم الدين الإسلامي بعمامته الأزهرية البيضاء في صورة الجاهل، معدوم المروءة".
تحذير غلب عليه الحرص، وهذا حق للمؤسسة ومجتمعها، على صورة وموقع وهيبة رجل الدين الأزهري، أكثر مما هو نقاش في محتوى المسلسل ورد عليه بطرح عقائدي محكم.
كيف لا، وفي سجل العقل المنير والمستنير لفضيلة شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب، مقابلة مع التليفزيون المصري يقول فيها حرفياً "لا يوجد نص صريح في القرآن أو السنة، يقضي بأنه إذا بلغ الطفل 7 سنوات -والبنت 9 سنوات- يُنزع من الأم ويذهب للأب".
قدم إبراهيم عيسى أطروحة لها ما لها في المضمون، وعليها ما عليها في الأسلوب، وربما في المضمون، من وجهة نظر من يختلفون معه.
ما يهم أن "عيسى" عبر مسلسله، كما مسلسل "الاختيار 3"، الذي يمثل مضبطة اتهام محكمة لتنظيم "الإخوان المسلمين"، لا يتحركان في فراغ ثقافي أو فكري أو سياسي، بل ضمن اختبار أوسع للتجديد الديني، تلعب فيه السلطات المختصة دوراً مركزياً على مستوى شخصية الدولة وبنيتها القانونية والتشريعية.
وقد كان للرئيس عبد الفتاح السيسي خطاب شهير توجه فيه إلى الأزهر عام 2015، بالدعوة إلى "ثورة دينية" للتخلص من أفكار ونصوص تم تقديسها على مدى قرون، وباتت مصدر قلق للعالم كله.
ولكن لأننا في زمن السوشيال ميديا و"القبلية السياسية"، حيث تنحو المعارك من مثل هذا النوع إلى التحزب والعصبيات، لا بد من التذكير بدور الأزهر المركزي في السياق السياسي الأوسع لمعركة التجديد الديني "لم أستعمل مفردة (الإصلاح)"، الذي من أبرز محطاته وثيقة الأخوة الإنسانية ببنودها الـ12 التي وقعت في أبوظبي في 4 فبراير/شباط) 2019 بين قداسة البابا فرنسيس بابا الكنيسة الكاثوليكية، وفضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف، ليأتي بعد ذلك اعتمادها بالإجماع بعد سنتين من الجمعية العامة للأمم المتحدة.
تنهض الوثيقة على ثلاثة مداميك استراتيجية هي التسامح، وحرية المعتقد، ومبدأ المواطنة، كنقيض موضوعي لكل أفكار التطرف والإرهاب والتعصب والانغلاق.
كل هذا في كفة، وتصدّر الأمير محمد بن سلمان، لمعركة التجديد من بوابة السنة النبوية في كفة وحدها في مجلة "الأتلانتيك".
قال ولي العهد، إن فوضى الحديث المتواتر هي "المصدر الأساسي للانقسام في العالم الإسلامي، بين المسلمين المتطرفين وبقية المسلمين، فهنالك عشرات الآلاف من الأحاديث، والغالبية العظمى منها لم تُثبت، ويستخدمها العديد من الناس كوسيلة لتبرير أفعالهم، فعلى سبيل المثال، تنظيما القاعدة وداعش يستخدمان الأحاديث النبوية الضعيفة جداً، التي لم تثبت صحتها، لإثبات وجهة نظرهم".
بإزاء ذلك تسعى المؤسسة السياسية السعودية إلى تحديد أحاديث الرسول الصُّلبة وجمعها ونشرها، كاستراتيجية لتحرير الدين من فوضى الأحاديث الضعيفة، واستسهال التطرف وتبرير فكر الجريمة وشرعنته.
المسلمون إذًا على أبواب "صحيح" جديد خلال عام أو عامين. سيُحيل إلى التقاعد الكتبَ التي تعج بما يسمى "أحاديث الآحاد"، أي الأحاديث التي شرحها الأمير محمد بن سلمان، كما يلي: "هي ما سمعه شخص عن الرسول، وسمعه شخص آخر عن الشخص الأول، حتى نصل لمن وثقها، أو سمعها قلة من الناس عن الرسول، وسمعها شخص واحد من هؤلاء القلة"، بدل الأحاديث التي تواترتها جماعة عن جماعة عن جماعة عن الرسول!
القصة إذًا ليست قصة مسلسل، تختلف التقديرات حول مدى ما أصاب أو أخطأ، بل هي معركة استعادة الدين من خاطفيه، وتحرير العقل الديني من أسر التاريخ.
نقلا عن الشرق الأوسط
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة