وسط دخان الحرب الخانق وبين زوايا غزة المدمرة وأنقاض تراكمت يمينا ويسارا تشقها صرخات الجوع تارة وآنين القصف تارة أخرى، لا يزال هناك من يمد يده البيضاء من بعيد، يد لا تلوح إلا بفعل، ولا تنتفض إلا لتمسح دمعا وتجبر كسرا وتروي ظمأ، وتعطي أملا لمن لا أمل لهم.
هناك غزة وهنا الإمارات، وما بينهما جسور من إنسانية حقيقية لا تعرف المزايدات، تكتب بلغة الأفعال فصلا آخر من فصول الإنسانية، جنبا إلى جنب مع جهودها الدبلوماسية التي لم تنقطع منذ اندلاع الحرب، حيث لم تترك الإمارات بابا من أجل وقف المعاناة إلا وطرقته، وستستمر في ذلك إلى أن تضع الحرب أوزارها.
ولمَ لا، ودولة الإمارات منذ عقود تقف دوما عونا وسندا للشعب الفلسطيني، من منطلق قاعدة ثابتة ومنهجا لم ولن يتغير وضعه الراحل المؤسس المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، ولخصها التاريخ في مقولته الخالدة إن "قضية فلسطين هي قضية العرب أجمعين، وهي أمانة مقدسة في أعناقهم. إن إيماننا بقضية فلسطين بعض من إيماننا بعروبتنا تاريخا ونشأة وكيانا".
ولأن فلسطين ليست مجرد قضية سياسية، سارعت دولة الإمارات منذ اليوم الأول من الحرب القاتمة التي اندلعت أكتوبر/تشرين الأول 2023، ولم تنتظر اتفاقات سياسية أو قوافل إعلامية، واقتحمت المشهد إنسانيا لتؤكد أنها دائما "دولة أفعال لا أقوال"، وهكذا تقول الأرقام - وهي لا تكذب - إن 44% من المساعدات الإنسانية التي دخلت إلى غزة جاءت من الإمارات، رقم لا يقال بل يعاش في كل رغيف، وكل جرعة ماء، في كل طفل عاد يتنفس بعد أن جفف القصف صدره.
منذ ذلك الحين لم تتوقف جهود دولة الإمارات على مدار الساعة لوقف الحرب، وحماية جميع المدنيين، وإيجاد أفق للسلام الشامل، إلى جانب تقديم الدعم الإنساني والإغاثي لأهالي قطاع غزة ورعاية الجرحى والمرضى، فالقضية هنا ليست مجرد إغاثة، ولا المسألة مجرد قوافل تمر أو سفن ترسو أو طائرات تحلق، بل هي ملحمة إنسانية تحاول أن تخفف من آلام الحرب، والفقدان، والجوع، والعوز.
وهنا، لا بد أن نقف أمام سلسلة من المبادرات التي أطلقتها الإمارات، لا كعناوين دعائية، بل كبرامج حقيقية نبعت من رحم المعاناة، ففي 15 أكتوبر/تشرين الأول 2023 انطلقت مبادرة "تراحم من أجل غزة"، التي شارك فيها أكثر من 24 ألف متطوع من أبناء الإمارات، أعدوا بأنفسهم 71 ألف سلة إغاثية، حملت بمحبة ووزعت على شعب يذوق الجوع بكل معانيه.
ثم جاءت مبادرة "الفارس الشهم 3" في 5 نوفمبر/تشرين الثاني، بتوجيه من الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس دولة الإمارات، كأم كبرى لمجموعة مبادرات إنسانية متكاملة، التي هي بحق واحدة من أوسع العمليات الإغاثية في التاريخ العربي المعاصر، ففي أقل من 500 يوم قدمت الإمارات جوا وبحرا وبرا أكثر من 65 ألف طن من المساعدات، بقيمة فاقت 1.2 مليار دولار.
ومن هذه المبادرة ولدت مبادرة "طيور الخير" في 28 فبراير/تشرين الثاني 2024، لتكمل الحلقة الأصعب، ألا وهي إيصال المساعدات جوا إلى المناطق المعزولة في قطاع غزة، حين استحال الوصول إليها من البر أو البحر، كانت الطائرات ومازالت تبذر الحياة، 193 طائرة أسقطت 3725 طنا من المساعدات.
كان طفل يئن في سريره المتفحم، فيما المستشفى الميداني الإماراتي في غزة يفتح أبوابه، هناك حيث أغلقت كل الأبواب، بقي باب الإمارات مفتوحا، خمسة وخمسون ألف حالة استقبلها هذا المستشفى، وجراح لا تحصى تم تضميدها، وقلوب كثيرة نبضت من جديد.
أطفال في غزة لا يملكون رفاهية الانتظار، لذلك حين كتب الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الخارجية الإماراتي على حسابه عبر منصة "إكس" أن بلاده ستواصل الدعم، لم تمر سوى سويعات قليلة حتى حلقت طائرات "طيور الخير" فوق الأماكن المنكوبة وما أكثرها، حاملة مساعدات لمناطق لا تصلها إلا القذائف وآلة الموت. من خلال 193 طائرة إغاثة، أسقطت الإمارات قرابة 4 آلاف طن من المساعدات، فقط عبر الجو، في عمليات دقيقة محفوفة بالمخاطر.
ومن الجو إلى البحر، عبرت 17 سفينة إماراتية محملة بالإمدادات، كان آخرها "خليفة 8"، أكبر سفينة مساعدات إماراتية حتى الآن، محملة بـ7.166 طنا من الغذاء والدواء، لم تتأخر عن وجهتها يوما رغم كل الظروف.
ولأن الحياة منبعها الماء، أنشأت دولة الإمارات ست محطات تحلية تضخ يوميا مليوني غالون من المياه الصالحة للشرب، هل تدري ماذا تعني قطرة ماء في غزة؟ إنها الحياة، في بقعة أرض مكتظة بأكثر من مليوني شخص دمر فيها 80% من البنية المائية، لتعيد الإمارات إصلاح الآبار، وترمم الصهاريج، وتنفيذ مشروع إمداد المياه المحلاة إلى قطاع غزة من مصر، عبر خط ناقل جديد يعد الأكبر من نوعه، بطول 6.7 كيلومتر، يروي عطش 600 ألف نسمة ويوفر 15 لترا من المياه لكل فرد يوميا.
ولأن الجوع لا ينتظر، كانت الإمارات تشغل عشرات المخابز الميدانية، تنتج الخبز ليس كمادة غذائية، بل كرسالة أن الحياة ممكنة رغم الموت، تكايا الخير، خمسون منها، تعمل يوميا على تحضير وجبات ساخنة، كأنها تطهو على نار من الصبر، وتقدم لعائلات تحيا بلا سقف، بلا كهرباء، بلا صوت إلا صوت من يقف معهم.
لا تنتهي الحكاية عند الغذاء والماء، حيث تواصل الإمارات دعم قطاع الصحة الذي ينهار، مقدمة دفعات متواصلة من الأدوية والمعدات، كان آخرها 150 سريرا طبيا، و6 خيام ميدانية طبية، وأطنانا من المستهلكات الحيوية التي أنقذت أرواحا كثيرة كانت تتنفس الانتظار.
ثم يأتي الأطفال، هؤلاء الذين لا ذنب لهم سوى أنهم ولدوا في قطاع غزة، هل رأيت صورة الطفل حاتم عوض؟ ذلك الصغير صاحب السنوات الثلاث الذي التهمته النيران، ووجد نفسه فجأة في مستشفيات الإمارات يتلقى علاجا يليق ببراءته؟ حاتم هو واحد من آلاف الأطفال الذين قررت الإمارات أن تكون حاضنتهم، فجاءت مبادرة لعلاج ألف مصاب، وألف مريض سرطان.
قوافل من المرضى تم إجلاؤها، بمرافقة عائلاتهم، من ممرات الموت إلى ممرات الأمل، 2634 مريضا ومرافقا حطوا رحالهم في دولة الإمارات، وراء كل واحد منهم قصة، قصة فيها أم ثكلى، وأب مكلوم، وطفل يبكي جوعا وخوفا.
هي مبادرات متوالية وصادقة نابعة من بلد الخير لا تريد من أحد جزاء ولا شكورا، لا تعبأ إلا لنظرة عيون الجياع وأصوات الأمعاء الخاوية، ففي كل خيمة نصبت، وفي كل فرن أخرج الخبز وأعطى الحياة، وفي كل طفل شفي، هناك اسم لا يقال كثيرا ولكنه حاضر دائما، ألا وهو الإمارات.
ربما لا يسمع أطفال غزة باسم الدولة التي أسعفتهم، لكن الأهم أنهم عرفوا طعم النجاة وعرفوا أن هناك من شعر بهم، ومسح على رأسهم، وطبطب عليهم وخفف آلامهم.
ما تقوم به دولة الإمارات ليست إغاثة مؤقتة، بل ملحمة إنسانية متكاملة، بقيادة الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس دولة الإمارات، الذي لم يدع لحظة تمر دون أن تتحول فيها كلمات التضامن إلى جسور من الأمل، يطمئن القاصي والداني أن الخير سيظل في هذه الأمة إلى يوم القيامة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة