تابعت مؤخراً عدداً من البرامج بعضها تلفزيوني وبعضها بودكاست؛ تضمنت حوارات أجريت مع الدكتور عدنان إبراهيم تحدث في أجزاء منها عن أفكاره ومواقفه ومراجعاته الفكرية.
قال كلاما مُهمًّا عبّر من خلاله عن ندمه الشديد ودوره (حسب وصفه) في التحريض والتشجيع والتخبيب، وإيغاله في دعمه لقضية الثورات العربية، وأعتقد أنه يقصد بذلك ما يسمى فترة «الربيع العربي» وأعلن اعتذاره صراحة عن ذلك.
من الواضح أن الدكتور عدنان إبراهيم، وهو أحد أهم الباحثين في الفكر الإسلامي من المعاصرين، كان صادقا في طرحه وفي كل ما قال في ذلك اللقاء، وكان شجاعا في اعترافه على ما حمل ذلك الاعتراف من خطورة كبيرة لكنه يستحق الاحترام لكونه آمن بأهمية المراجعة الفكرية وبأهمية المكاشفة والشفافية والوضوح في قضايا تمس واقع الإنسان المسلم والعربي على وجه خاص.
الإنسان في العالم العربي قبل ما أطلق عليه «الربيع العربي» عانى من تغوّل فكري مخيف من عدد من التيارات الدينية والفكرية والثقافية المتطرفة ومن الحركات اليسارية والشعبوية والشعوبية وغير ذلك. وتعرض إلى شحنات وكميات كبيرة من التضليل والتزييف والتحريض والتخرص والشحن، خاصة في مرحلة نهايات التسعينات وبدايات الألفية الجديدة.
حملات كانت مخيفة وكانت أحداث ما يسمى بـ«الربيع العربي» واحدة من نتائج ذلك الشحن. وللأسف فإن الحركة الشعرية والفكرية التي قادها رواد الحداثة والمد القومي العروبي منذ ستينيات القرن الماضي إلى بداية الألفية الجديدة ساهمت أيضاً إلى جانب تيارات الإسلام السياسي في زرع بذور الفوضى، ولعبت دورا كبيرا في تضليل الشعوب من خلال قصائد ثائرة ودواوين شعرية غذت فكرة التمرد والاحتراب والفوضى والتشغيب والتأليب.
فالتاريخ الحديث مليء بعدد كبير من الشعراء ممن يرون في الشعر بابا لتفريغ شحناتهم وحالات الغضب التي تنتابهم دون إعمال للعقل ولا للحكمة ولم توجد معالجات للوضع بقدر ما كانت تجيّر النص الشعري لدغدغة المشاعر وزيادة الاستقطاب وبعضهم لجأ إلى أسوأ وأردأ أنواع الشعر، وأقصد بذلك قصائد الهجاء التي عمت العالم العربي وغذت الإنسان العربي بكميات كبيرة من الكراهية والحقد والجحود ضد كل شيء، بشكل مطلق دون تروٍ وتعقّل، ونالت من الأوطان والحكومات وتجاوزت الحدود حتى على عدد من الحكام في كثير منها وعلى الأوطان وضد الإنسان في قصائدهم السياسية المشحونة بالغضب على وجه خاص.. وأجيال الثمانينيات والتسعينيات كثير منها تأثر بشكل كبير بذلك الخطاب التضليلي والمشحون وقليل من نجا من ذلك المد.. وقليل من استدرك مبكراً وأعاد النظر في كتاباته.
لقد انعكست تلك الموجة على كثير من المفكرين والأدباء والشعراء الذين انجروا مع ذلك المد وهو مد ظلامي، في الواقع لم يكن يرى وبشكل مؤسف سوى الظلامية والسوداوية، ومنهم من انضم إلى تلك الجوقة باندفاع وجهالة وعدم وضوح الصورة والمشهد العام بالنسبة إليه.
لقد لعبت العديد من الحركات الفكرية والشعرية التي يعد الكثير منها متطرفا، ومنها اليسارية التي مرت على العالم العربي دورا شديد السلبية في شحن الإنسان العربي وفي تضليله. وقد أفسدت الكثير من النصوص الشعرية حياة الناس بشعارات زائفة وأفكار ساهمت في تضليل الإنسان العربي وزرع الكره في نفسه للأوطان ووضعته في قالب لم يخرج عن الصراع مع الذات وجلد الذات والبكاء على الأطلال واللبن المسكوب واستعداء الآخر.
لكن والحق يقال: هناك فئة قليلة ممن قام بمراجعات فكرية وسرعان ما غيّرت أفكارها وقناعاتها؛ منهم شخصيات دينية شهيرة وأخرى فكرية وشخصيات ثقافية وشعرية يشار إليها بالبنان.
تلك المراجعات تستحق التأمل، وتستحق أن يتم دراستها وتسليط الضوء ليس على شخوصها بل على مضمونها وتأثيرها ونتائج تلك التحولات، وقد سبق وتحدثت مع زميلة كلمة قبل فترة زمنية، وناقشنا ذلك النوع من القصائد في سياق تحذيري بأن قليلا نجا من ذلك التيّار وأن ذلك الخط بكل ما يتوهّم فيه، فيه نفَسٌ يعكس ذهنية الإنسان العربي الغاضب في تركيبته النفسية إلا أنه في النهاية خط سيء في باطنه العذاب لا الرحمة ولا يليق بالمكارم؛ إذ نجد الكثير من الشخصيات التي كانت تدعي البطولة قدمت خطاباً مضللا مشحوناً بالغضب.
وكان من الأجدر وحريّ بالعقل المتزن والنفس السوية لجم تلك الأفكار والحذر من اتباع تلك المدارس. والنفس السوية تدرك ذلك خاصة في مسألة احتمالية ورود الخطأ في مسيرتها، وفي جديتها في البحث عن الصواب وفي مكاشفاتها مع ذاتها ومراجعاتها.
إن التجارب الفكرية والشعرية كلها تمر بمنعطفات وتحولات، وهذا أمر طبيعي في التجارب الإبداعية التي تتحول نحو التجارب الواعية. وفي تراثنا الإسلامي شخصية كعب بن زهير الشاعر الذي عفا عنه رسول الله -عليه الصلاة والسلام- وقصيدته البردة شاهدة على ذلك، فالخطأ وارد ويقع فيه الإنسان لكن ما ليس طبيعيا هو عدم المراجعة والاستدراك وعدم البحث عن الحقيقة وعدم اتباع الصواب والبقاء في ذلك النفق المظلم.
من الجهل إذن أنّ من الوارد أن يسلك المرء خطاً خاطئاً سهواً أو غفلة أو حتّى جهلاً، لكن من الصعب اكتشاف خطورة ذلك الخط وذلك المد، وأحسنهم من أتيحت له فرصة لمراجعته واستثمار أي فرصة لإعادة النظر في الأفكار، ومن يراجع الأفكار الطارئة سيتضح له أهمية التراجع السريع عنها وتصويبها.
لم يسلم العالم العربي من محيطه إلى خليجه من التأثر بذلك الخط الخطر من شعراء عرب من مصر والعراق وسوريا ولبنان والسودان والمغرب والسعودية واليمن والأردن والعراق، بل وأغلب الدول العربية وكثير من الشعراء الذين كتبوا نصوصا شعرية كان دافعها الغضب والاندفاع والتأثر بذلك الخطاب الأرعن المليء بالكراهية، وكان من الممكن تفاديه، والاستعاضة بخطاب متزن يضع الأمور في نصابها. خاصة في القرن الماضي وصولاً إلى بداية القرن الحالي.
في عصرنا الحالي لعبت دولة الإمارات بمشاريعها التنويرية والفكرية والثقافية والشعرية الدور الأساسي الأبرز والمحوري في تغيير الأفكار والقناعات، واستطاعت أن تؤثر في الخطاب الثقافي على مستوى العالم العربي جماهيرياً ونخبوياً، وانضوت تحت مشاريعها قامات فكرية يشار إليها بالبنان انحازت إلى العقلانية والوسطية ورجاحة العقل والوعي المتقدم والتنوير.
واستطاعت دولة الإمارات احتواء من يرجى صلاحهم، ولا غرابة أن عدداً منهم انضم لمشاريعها المضيئة لصواب رؤيتها للدين وللفكر والثقافة والشعر وللحياة ولمشروعها الإنساني، ولكونها أيضاً استطاعت التأثير في النخب السياسية والثقافية والدينية وغيرت من نمطية تفكير العديد من رجال الدين والشعراء والأدباء والنقاد.
واستطاعت -كذلك- أن تجعلهم يحفرون في المعنى لإيجاد حلول مستدامة لقضايا أمتهم وأوطانهم من خلال مشاريعها التنويرية والقيمية، ومن خلال البرامج الفكرية التي تقوم على قرار السلام وحقن الدماء وتعزيز السلم والتسامح والمحبة والحوار ونبذ الكراهية، ومن خلال الخط القيمي الذي يقوم على المكارم والشيم العربية الأصيلة.
ومن يتأمل يدرك مدى تأثير دولة الإمارات في الحركة الاجتماعية والفكرية والثقافية على مستوى العالم العربي، بل إننا في مقاربة وقراءة سريعة للمشهدية يمكن القول إن النموذج الديني والثقافي والاجتماعي الإماراتي أثّر أيّما تأثير ليس في النخب السياسية فحسب بل أيضاً في النخب الدينية والاجتماعية على المستوى الإقليمي وعلى المنطقة العربية وعلى العوام أيضاً.
والدليل على ذلك، المراجعات التي نسمع عنها بين الفينة والأخرى من شخصيات كانت محسوبة على تيارات دينية أو فكرية معينة، وأخرى كانت ذات أيديولوجيات مزيفة، وبعضها مختلف، حولها وانضمت إلى قطار التنوير الإماراتي وهذا الأمر يحسب لدولة الإمارات التي تقود الحواضر العربية تنموياً وفكرياً وثقافياً واجتماعياً في وقتنا المعاصر.
لذلك على كل أولئك الذين استيقظوا من غفلتهم أن يدركوا مسؤوليتهم ودورهم في التوعية بخطورة تلك التيارات المؤدلجة والأيدولوجيات المزيفة بمختلف أطيافها ومواجهة الشخصيات التي مازالت في جاهليتها سواء كانت فكرية أم دينية أم ثقافية أم شعرية، حفاظا على الأجيال الحالية والأجيال المقبلة.
وفي رأيي: من المهم أن يكون لكل أولئك الذين قاموا بمراجعات فكرية دور في زيادة الجهود في تقويض الخطاب الأيديولوجي المزيف والمد الشعوبي الذي انسل من وعبر الثقافة والأدب إلى الإنسان البسيط واستغلهما، ويكون ذلك بالخطاب القيمي البديل الذي ينحاز للسلم ومواجهة الخطاب السلبي بتعزيز الخطاب الإيجابي المتفائل والمتفاعل وتعزيز الخطاب القيمي الذي يؤمن بالعقل لا بالعواطف وردود الفعل السريعة.
والأهم من ذلك مواجهة خطابات تيارات الإسلام السياسي والحركات اليسارية ومختلف الأيديولوجيات المزيفة بالكلمة الصادقة الواعية المدركة للسياقات وكشف مشاريعهم الوهمية ومحاربتهم شعرياً وفكريا وثقافيا.
ومن المهم تعزيز مفهوم الدولة الوطنية في نفوس النشء من خلال الخطاب الثقافي المتزن سواء كان شعراً أم رواية أم نصوصاً فكرية وأعمالاً أدبية أو فنية وقس على ذلك ..
نعم يا دكتور عدنان إبراهيم.. لقد تعرضت الأجيال لخديعة كبرى ليس من باراك أوباما وزمرته فحسب، بل أيضاً من أبناء جلدتنا الذين انطلت عليهم الخطابات الشعبوية والشعوبية.
واستطاع الغرب فهم تلك السياقات الثقافية، وقراءتها جيداً ودرس وفهم تأثير وأبعاد ذلك المد التضليلي، وقام بتوظيفه لصالحه واستغل جماعات الإسلام السياسي والإرهابيين كالإخوان وغيرهم واليساريين، واستغل حالة الغضب الفردي والجمعي الذي كان مستشريا في تلك المرحلة في العالم العربي.
وما مر على العالم العربي من نكبات إلى يومنا هذا لا يخفى على عاقل وأغلبها كان بسبب الشحن الأيديولوجي المزيف.
وفي الغالب كانت الشعارات السياسية ذات منطلقات ثقافية مؤدلجة إلى جانب التراث الديني وغرفت منها التيارات المتطرفة لجمع الحشود والتأثير في النفوس كونه في الغالب كان خطاباً مشحونا غاضباً متهوراً يعزز سردية التطرف والتمرد على الدول. ويمكن وصف مرحلة فوضى ما يسمى بالربيع العربي بأنها النكسة الحقيقية التي جاءت أولاً من الداخل ثم غذاها التدخّل الخارجي المباشر وغير المباشر.
لقد صدق الدكتور عدنان إبراهيم الذي أكن له كامل الاحترام والتقدير في تحوله نحو الخطاب المستنير وأحييه على شجاعته وجرأته في الاعتراف أولا علناً، وفي الاعتذار ثانياً، وفي توضيح مواقفه. وهكذا يكون المثقف ورجل الدين الشريف والشرفاء يتراجعون ويراجعون أفكارهم وفي طريقهم نحو الحقيقة يركزون على خطاب البناء لا خطاب الهدم وخطاب المحبة لا خطاب الكراهية وخطاب النور لا خطاب الظلامية، وخطاب الصوت المتزن الهادئ لا خطاب رفع العقائر.
وما نراه من الجهود التي يبذلها عدد من المفكرين الذين تراجعوا وأعادوا قراءة أفكارهم لخدمة أمتهم تكاد تعبر عن حالة تاريخية فارقة لم يسبق أن حدثت على هذا النحو في التاريخ الإسلامي ولا العربي وهي حالة جديرة بالاهتمام وتستحق الدراسة.
الدكتور عدنان إبراهيم وهو الشخصية الموسوعية أدرك بفكره أنه لا مناص من ذلك الإعلان المهم وهو يعلم مدى تأثيره وأثبتت الأيام أن الشمس لا يحجبها الغربال وأن النور دائما منتصر ويسود، وأن الحق أحق أن يتبع، وأن إصلاح ما يمكن إصلاحه نهج الصادقين، والتراجع عن المواقف الخاطئة التي اتضح أنها غير صحيحة يدل على صدق مسعى في هذه الحياة ومراجعاته بمثابة إصلاح فكري ينحاز إلى الوسطية وإلى الاعتدال وإلى التسامح وإلى السلم والتعايش. وهنا مربط الفرس العودة إلى جادة الصواب ولا شك أن كثيرين سيمضون على خطه في المراجعات.
وصدق الله عز وجل: ( فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم ).
وفي الجهة المضيئة (فمن عفا وأصلح فأجره على الله).
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة