على عتبات السبعينات من عمره، لا يزال المفكر ياباني الأصل أمريكي الجنسية، فرانسيس فوكوياما، مهموما بمستقبل الديمقراطيات ومآلات الحريات وأفق النظام الليبرالي حول العالم.
بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، شاغب فوكوياما العالم بأفكاره عن نهاية التاريخ، والإنسان الأخير، وقد اعتبر أن الرأسمالية بوجهها الليبرالي "مشتهى الأجيال"، ما يعني أنه صادَرَ على حركة التاريخ، ولهذا لم تختلف رؤيته كثيرا عن فكرة "الرايخ الثالث"، ذاك الذي ادَّعى صُنَّاعه أنه سيحكم لمدة ألف عام.
تاليا عاد فوكوياما فيما يشبه التراجع عن طرحه الإشكالي هذا، ومؤخرا بدا الرجل منشغلا بأزمة الهويات، والتي كرّس لها مؤلفه الأخير المعنون بـ"الهوية مطلب الكرامية وسياسات الاستياء".
لم يكن لفوكوياما أن يصمت أمام النزاع الروسي-الأوكراني، ذاك الذي اعتبره البعض نقطة تحول حاسمة في تاريخ العالم، فيما ذهب نفرٌ آخر من المحللين السياسيين إلى أن العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا تبدو وعلى نحو قاطع نهاية لما بعد الحرب الباردة، ونقطة زمنية حرجة تشكل تراجعا عن "أوروبا الكاملة والحرة"، والتي اعتقد الجميع أنها ظهرت عام 1991، بعد سقوط حائط برلين، ما أعطى لـ"فوكوياما" ذرائع ومبررات بـ"نهاية التاريخ".
يكاد "فوكوياما" يتحدى ويتصدى للتساؤل المزعج للدوائر الغربية العالمية: "هل العالم في مواجهة استحقاقات زمن القيصر بوتين، والذي فيه فاقت القوة كل ما عداها؟
رؤية رجل نهاية التاريخ لا تختلف كثيرا عما تروِّجه أبواق الآلة الإعلامية الغربية، من أن سيّد الكرملين يسعى حثيثا في طريق إعادة إحياء الإمبراطورية السلافية، من خلال تجميع ما تم تفخيخه وتفكيكه من جمهوريات سوفييتية سابقة قبل ثلاثة عقود، فهو يؤمن بأن "بوتين" قد حزم أمره وحسم قراره بـ"ضم أوكرانيا إلى النطاق الجغرافي الروسي"، وتاليا "خلق فضاء من النفوذ يمتد عبر كل دول أوروبا الشرقية، لا سيما تلك التي انضمت إلى الناتو في التسعينيات وما بعدها".
يختصم من رؤية فوكوياما انحيازه غير الموضوعي لجذور المسألة الأوكرانية تاريخيا، وعلى صعيد الجغرافيا والديموغرافيا من جهة، وعدم تناوله بصورة عقلانية المبررات، التي دفعت كولونيل الاستخبارات الروسية السابق، إلى تفضيل الخيار العسكري على نظيره الدبلوماسي.
لا يداري "فوكوياما" عجزه عن توقع خطوة "بوتين" القادمة، وأي بيادق سيحركها على خارطة الشطرنج الإدراكية، وهو أمر أقعد، بل أعجز، غالبية المراقبين والمحللين السياسيين والاستخباريين المتابعين لبوتين، ومع ذلك نراه يقطع باليقين -أي فوكوياما- بأن "بوتين" لن يحقق أهدافه القصوى من "العملية الأوكرانية".
فوكوياما يحاجج بأن العمل العسكري على الأراضي الأوكرانية "يتعثر"، وأن المقاومة الأوكرانية "تكاد تتفوق" على القوات النظامية الروسية، وهو أمر تثبت عدم صحته في ظل احتلال القوات الروسية العديد من مدن أوكرانيا، وصولا بالضرورة والحتمية إلى العاصمة كييف.
يقف تنظير فوكوياما عند حدود العقوبات الاقتصادية، وهي السلاح الوحيد الذي حركه الناتو حتى الساعة في مواجهة بوتين، والقول بأنه حتى إذا استولى على كل أوكرانيا بالقوة، سيكون في مواجهة العالم الحر وحلف الناتو، موحدين ومعبَّئين على نحو غير مسبوق.
لم يقدم فوكوياما في قراءته التحليلية للأزمة الروسية- الأوكرانية، والتي نشرها عبر "الفاينانشيال تايمز" بدائل حقيقية غربية للتعاطي مع السلوك الروسي، وبدا أنه "خالي الوفاض من أي غزل عقلي لسلوك بوتين"، كفيل بأن يرجعه إلى جادة الصواب، وبما ينهي الأزمة على مائدة المفاوضات وعبر الحوار لا النزاع.
ما استفاض فوكوياما في طرحه وشرحه هو التحذير من مآلات النظام العالمي، وإن كان غالبية المفكرين العالميين يرون أنه "لم يعد هناك نظام عالمي موحد بالفعل"، وفي أحسن الأحوال "ستكون هناك تكتلات إقليمية، إن لم يتحول المشهد إلى فوضى عالمية"، والعُهدة هنا على روبرت كاغان، أحد أهم بناة مشروع القرن الأمريكي في نهاية تسعينيات القرن المنصرم.
مخاوف فوكوياما تجاه ما يراه نظاما عالميا ليبراليا حُرًّا موحدا لا تبدأ ولا تنتهي -حسب وصفه- من عند نزاع روسيا-أوكرانيا، ومن هذا المنطلق يقطع بأن فكرة النظام العالمي الحُر "لم تعد أمرا مسلما به مرة وإلى الأبد، بل شأن يستدعي يقظة وانتباها دائمين، وإلا سيختفي العالم الليبرالي في اللحظة التي يزول فيها الحذر".
هل يدعو فوكوياما إلى عسكرة غربية، أم مكارثية عالمية؟
من غير المؤكد أن الرجل يمتلك طرحا شفافا، بل إنه يجزم بأن الليبرالية "تتعرض لهجوم منذ زمن، من كلا اليمين واليسار"، ما يعني أن "شيطنة بوتين" ليست هي الحل، وأن آلام اللبرالية العالمية لها مسببات أخرى.
يذكِّر فوكوياما العالم بتقرير مؤسسة "فريدوم هاوس للحريات" للعام الحالي 2022، وفيه نلحظ أدنى تراجع للحريات كونيا في آخر 16 سنة.
يلقي فوكوياما باللوم على مَن يصفها بأنها "قوى استبدادية"، عطفا على التيارات الشعبوية التي تختصم يوما تلو الآخر من مربعات نفوذ الليبرالية التاريخي، لكنه يعجز عن أن يقدم تبريرا للغزل البراجماتي الأمريكي لكل من إيران وفنزويلا، تحت الضغط والحاجة إلى مزيد من مصادر الطاقة، ما يعني أن العالم الليبرالي عينه هو من يخون قيمه ومبادئه في وقت الجدْب، ويتغنى بها في أزمنة الفيض.
هل هزيمة بوتين ستعجّل "ولادة جديدة للحرية" كما يخلص فوكوياما؟
غالب الظن أنه استنتاج "خاطئ"، وإلا كان انهيار الاتحاد السوفييتي من قبل قد استحضر الجنان على الأرض.
عالم من العدالة والمساواة، ومن الحفاظ على الكرامة الإنسانية، واحترام الهويات الإثنية، هو الحل، وليس الاستعلاء الفوقي الحضاري الذي أثبت فشله.
حكما ستنتهي أزمة أوكرانيا في المدى المنظور، لكن عالم ما بعد أوكرانيا هو السؤال الحائر من غير جوابٍ شافٍ وافٍ.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة