عادت مرة أخرى الخلافات في الظهور للعلن بين الاتحاد الأوروبي وبين الولايات المتحدة الأمريكية حول بناء خط أنابيب السيل الشمالي 2.
عادت مرة أخرى الخلافات في الظهور للعلن بين الاتحاد الأوروبي (خاصة ألمانيا) وبين الولايات المتحدة الأمريكية حول بناء خط أنابيب السيل الشمالي 2، الذي ينقل الغاز الطبيعي الروسي عبر بحر البلطيق إلى ألمانيا، ويبدو أن هذه الخلافات تصاعدت مع بدء ألمانيا بالفعل في بناء خط الأنابيب في الجزء الذي يقع في مياهها الإقليمية يوم 6 أكتوبر الماضي.
ومن المقرر أن ينتهي استكمال هذا الجزء من الخط الذي يمتد لنحو 30 كيلومترا قبل نهاية هذا العام، وكان الموقف الأمريكي من خط السيل الشمالي بدأ في إثارة خلافات شديدة مع ألمانيا، مع العقوبات التي أقرها مجلس النواب الأمريكي في نهاية شهر يوليو من العام الماضي ضد روسيا، وكان من شأن هذه العقوبات عمليا منع شركات أوروبية وألمانية من العمل في مشروع السيل الشمالي 2، على الرغم من أن المشروع هو مشروع مشترك بين شركة جاز بروم الروسية بنسبة النصف ويتوزع النصف الآخر على شركات أوروبية من ألمانيا والنمسا وفرنسا وهولندا وبريطانيا.
ينبغي لفت الانتباه إلى أن أمريكا ذكرت مرارا أنها ترغب في تصدير الغاز المسال لأوروبا كبديل عن الغاز الروسي لتعزيز أمن الطاقة الأوروبي، خاصة مع انتظار حدوث زيادة ضخمة في الإنتاج الأمريكي من الغاز الصخري
وتجددت الخلافات في 11 يوليو الماضي مع الانتقادات الحادة للمشروع وسياسة الطاقة الأوروبية عموما من قبل الرئيس الأمريكي نفسه، أثناء مؤتمر صحفي مع سكرتير عام حلف الأطلنطي، حيث من بين ما قاله ترامب "أنا أعتقد أنه أمر محزن أن تقوم ألمانيا بصفقة ضخمة للنفط والغاز مع روسيا؛ حيث تدفع بلايين الدولارات سنويا لها، نحن نحمي ألمانيا ونحمي فرنسا ونحمي كل هذه البلدان ثم يذهب عدد كبير منها لصفقة أنابيب مع روسيا، حيث يدفعون بلايين الدولارات في الخزائن الروسية، وأنا أشكو من هذا الأمر منذ علمته، وما كان ينبغي أبدا أن يحدث، ولكن ألمانيا تتحكم فيها روسيا تماما، لأنها ستحصل على ما بين 60% إلى 70% من الطاقة من روسيا وخط أنابيب جديد".
وفي الوقت ذاته ينبغي لفت الانتباه إلى أن أمريكا ذكرت مرارا أنها ترغب في تصدير الغاز المسال لأوروبا كبديل عن الغاز الروسي لتعزيز أمن الطاقة الأوروبي، خاصة مع انتظار حدوث زيادة ضخمة في الإنتاج الأمريكي من الغاز الصخري.
وجاء الرد الألماني على الانتقادات الأمريكية بشكل صريح ومباشر، مما يؤشر إلى تصاعد الخلاف دون سعي جدي للوصول لتفاهم بين الجانبين، وتمثل الرد الألماني في المداخلة التي قام بها وزير الدولة بوزارة الخارجية الألمانية أندرياس ميخائيلس، يوم الثلاثاء الماضي 16 أكتوبر في برلين، أثناء انعقاد مؤتمر "الروابط عبر الأطلنطي"، ومن أهم ما قاله الدبلوماسي الألماني في مداخلته، ونقلته وكالة رويترز للأنباء "إن على روسيا أن تظل مصدرا رئيسيا للطاقة لأوروبا، بغض النظر عن الضغوط الأمريكية في هذا الشأن، أنا لا أريد أن تحدد واشنطن سياسة الطاقة الأوربية، وبكل تأكيد أنا لست مستعدا للقبول بأن تقرر واشنطن في نهاية الأمر بأننا يجب علينا ألا نعتمد على الغاز الروسي وأن علينا ألا نستكمل هذا الخط".
المشروعات الروسية واحتياجات أوروبا
هناك مشروعان روسيان يتم العمل فيهما حاليا لنقل الغاز لأوروبا، الأول هو المشروع موضع الخلاف مع الولايات المتحدة خط أنابيب السيل الشمالي 2، والذي تبلغ طاقته 55 مليار متر مكعب سنويا، وأطلق عليه هذا الاسم لوجود خط آخر بالطاقة نفسها يعمل منذ عام 2011 هو خط السيل الشمالي، أما الخط الثاني فهو خط السيل التركي بطاقة تبلغ 32 مليار متر مكعب، ومن المنتظر أن تستهلك تركيا نصف هذه الكمية، بينما يذهب النصف الآخر عبرها لأوروبا، وتم الانتهاء من بناء نحو 80% بالفعل من هذا الخط، ومن المنتظر أن ينتهي العمل فيه نهاية العام المقبل.
وكانت روسيا صدرت في العام الماضي 155 مليار متر مكعب من الغاز للاتحاد الأوروبي، و23 مليار متر مكعب لدول أوروبية غير أعضاء في الاتحاد (تشمل تركيا)، ومن هذه الكمية جرى نقل 93.5 مليار متر مكعب عبر أوكرانيا، ومن المقدر أنه مع انتهاء بناء خط السيل الشمالي 2 أن يتجه نحو 70% من الغاز الطبيعي الروسي المصدر للاتحاد الأوروبي إلى ألمانيا، ليتم توزيعه من هناك لبقية بلدان الاتحاد الأوروبي.
هل أمن الطاقة الأوربي في خطر؟
إزاء الانتقادات الأمريكية لمشروع السيل الشمالي 2 ردت أوروبا، خاصة ألمانيا، بأنها تنظر للمشروع على أرضية تجارية بحتة، حيث تراه مشروعا ناجحا، وهي ترد بذلك على ما تراه أمريكا من ضرورة استيراد الغاز الطبيعي الأمريكي المسال حتى تنوع في مصادر الطاقة ولا تبقى رهينة الغاز الروسي، وتذهب الآراء الأوروبية فيما يتعلق بأمن الطاقة إلى التركيز على عدة نقاط رئيسية.
أولها أن الغاز الأمريكي سيكون أعلى ثمنا بكثير من الغاز الروسي المورد عن طريق الأنابيب، ومن المهم الإشارة هنا أيضا إلى ما لا يذكره الرد الأوروبي ولكنه مفهوم ضمنا، وهو أن الغاز المسال أكثر مرونة في تسويقه؛ حيث يمكن إذا ظهرت أسواق تحقق ربحية أعلى للولايات المتحدة كأسواق آسيا مثلا أن تغير السفن الأمريكية التي تنقل الغاز وجهتها من أوروبا لآسيا، مما يعرض أمن الطاقة الأوروبي بالفعل لخطر تقلبات السوق.
ويرتبط ما سبق بالنقطة الثانية في رد أوروبا وهي أنها ترى أن الاعتماد متبادل، بل تكاد تذهب إلى حد القول بأن أكثر الدول اعتمادا على الغاز الروسي هي روسيا نفسها، فسوق الاتحاد الأوروبي هي أكبر أسواق روسيا، مما يجعلها مقيدة في التوجه نحو أي تحرك يجعلها تخسر هذه السوق، خاصة أن التصدير يتم عبر الأنابيب التي لا يمكن تغيير وجهتها، وإذا أضفنا لذلك اعتماد الاقتصاد الروسي البالغ على إيرادات النفط والغاز خاصة في تمويل الموازنة العامة للدولة يصبح من الصعب على روسيا اتخاذ أي إجراء يضر بسوقها الرئيسية.
وتضيف أوروبا الموحدة ثالثا أنها على الرغم من اعتمادها على روسيا إلا أن كل وارداتها منها لا تغطي سوى نحو 6% فقط من إجمالي استهلاكها السنوي من مصادر الطاقة المختلفة. وتشير إلى أنها تحتاج إلى الغاز الطبيعي تحديدا بسبب انخفاض إنتاج القارة الأوروبية منه.
وروسيا هي المورد الأول للغاز الطبيعي للاتحاد الأوروبي، حيث تقدم نحو 43% من جملة الغاز المستورد عبر الأنابيب، وهو ما يشكل نحو 30% من جملة استهلاك دول الاتحاد الأوروبي، وحتى مع اكتمال مشروع السيل الشمالي 2 في نهاية العام المقبل، كما هو مخطط، فلن تتغير نسبة الغاز الروسي في جملة الاستهلاك لزيادة مستوى الاستهلاك، إذ يقدر أن الاتحاد الأوروبي سيكون في حاجة إلى نحو 120 مليار متر مكعب سنويا إضافية خلال عام 2020 للتعويض عن نقص الإنتاج الأوروبي، وأيضا لإحلال الغاز الطبيعي محل الفحم في توليد الكهرباء، للمساعدة على تحقيق هدف خفض انبعاثات الكربون فيها لتبلغ في عام 2030 نحو 40% مما كانت عليه في عام 1990؛ حيث تشكل انبعاثات الغاز نحو نصف انبعاثات الفحم، ومن المقدر أن يقوم مشروع السيل الشمالي 2 وحده بتحقيق 15% من هدف أوروبا في خفض الانبعاثات في حال إحلاله محل الفحم.
وإلى جانب الإمدادات الروسية يتم تغطية بقية واردات الاتحاد الأوروبي عبر الأنابيب من الإنتاج الأوروبي من النرويج وهولندا أساسا وكميات ضئيلة من بريطانيا، ثم تأتي الواردات عبر الأنابيب من الجزائر لكل من إيطاليا وإسبانيا، إلى جانب هذا تعتمد أوروبا في 12% من الواردات على الغاز المسال.
والنقطة الرابعة المهمة في الرد الأوروبي هي أن لدى أوروبا الموحدة حاليا 22 محطة لاستقبال الغاز المسال، تبلغ جمله طاقتها نحو 216 مليار متر مكعب في السنة، أي أنها قادرة على تغطية نحو نصف الاحتياجات الحالية للاتحاد الأوروبي، ولكن هذه المحطات تعمل بنحو 27% فقط من طاقتها لارتفاع سعر الغاز المسال، أي أن الاتحاد الأوروبي لديه ببساطة بديل سريع يمكن اللجوء إليه في حال تعطل أو انخفاض الكميات الموردة من روسيا لأي سبب من الأسباب، ومن الملفت أن الطاقة غير المستغلة حاليا من هذه المحطات تبلغ نحو 158 مليار متر مكعب سنويا، وهي تكاد تكون الكمية نفسها التي استوردتها أوروبا الموحدة من روسيا في العام الماضي!!
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة