«لا يوجد شعر لأمشطه».. طفولة غزة تتساقط بين الحرب والذكريات

في عالم تُرسم فيه أحلام الطفولة باللعب والمرح، يجد أطفال غزة أنفسهم أسرى للذكريات المؤلمة وصدمات الحرب.
"لا توجد خصلة واحدة لأمشطها"
هذه سما طبيل، الطفلة ذات الثماني سنوات، تحاكي حركة تمشيط شعرها الذي تساقط بسبب الصدمات.
تقول سما لشبكة "سي إن إن"، وهي تضع رأسها بين يديها: "أنا حزينة للغاية لأنه لا يوجد ولو خصلة واحدة لأمشطها بفرشاتي. أحمل المرآة لأنني أريد تمشيط شعري، أريد حقا تمشيط شعري مرة أخرى".
بالنسبة لسما، تعيد هذه الحركة ذكريات حياة سابقة قبل اندلاع الحرب في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، عندما كان لديها شعر طويل وكانت تلعب في الخارج مع أصدقائها في مخيم جباليا شمال قطاع غزة.
ولكن منذ ذلك الحين، أصبحت سما وعائلتها من بين ما يُقدر بنحو 1.9 مليون فلسطيني هُجّروا قسرا من منازلهم، حيث فروا أولا إلى منطقة رفح جنوب القطاع بموجب أوامر عسكرية إسرائيلية.
ومع تصاعد العنف، انتقلت الطفلة إلى مخيم للنازحين في خان يونس، جنوبي القطاع.
وفي أكتوبر 2023، شنّت إسرائيل حربا مدمرة على قطاع غزة وذلك في أعقاب هجوم مباغت نفذته حماس في بلدات إسرائيلية، أوقع حوالي 1200 قتيل، وأكثر من 251 رهينة.
وقد أدى الهجوم العسكري الإسرائيلي، الذي توقف لما يقرب من شهرين بموجب اتفاق هش لوقف إطلاق النار، في يناير/كانون الثاني الماضي، إلى مقتل أكثر من 48 ألف فلسطيني، معظمهم من النساء والأطفال، وفقا لوزارة الصحة في غزة.
قدرت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف) في تقرير صدر في يونيو/حزيران الماضي أن جميع أطفال غزة تقريبا - البالغ عددهم 1.2 مليون طفل - بحاجة إلى دعم نفسي، خاصة من تعرضوا لصدمات متكررة.
بعد أسبوع من إعلان وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحماس في يناير، أخبر توم فليتشر، منسق الشؤون الإنسانية في الأمم المتحدة، مجلس الأمن الدولي أن "جيلا كاملا قد تعرض لصدمات نفسية".
وأضاف: "الأطفال قتلوا وجاعوا وتجمّدوا حتى الموت، وبعضهم توفي قبل أن يتنفسوا أول أنفاسهم - ماتوا مع أمهاتهم أثناء الولادة".
لكن في يوم الثلاثاء، استأنفت إسرائيل غاراتها الجوية، منهية هدنة كانت قد بدأت في 19 يناير، وقتلت مئات الفلسطينيين، وفقا لوزارة الصحة في غزة.
ووصفت إحدى الطبيبات لشبكة "سي إن إن" المشاهد في أحد مستشفيات غزة بأنها "شيء لم أشهده من قبل"، مشيرة إلى أن معظم الحالات التي تعاملت معها كانت لأطفال.
"لماذا لا ينمو شعري؟"
العام الماضي، شخّص الأطباء تساقط شعر سما بأنه نتيجة "صدمة عصبية"، وتحديدا بعد تعرّض منزل جارها في رفح لغارة جوية إسرائيلية في أغسطس/آب.
وأخبروا عائلتها أن التقلبات المؤلمة في حياتها اليومية منذ 7 أكتوبر ساهمت على الأرجح في إصابتها بـ"الثعلبة"، وهي حالة تسبب تساقط الشعر.
وأشار تقرير صدر أواخر العام الماضي عن تحالف أطفال الحرب ومركز التدريب المجتمعي لإدارة الأزمات في غزة الضوء، إلى الأثر النفسي الشديد الذي لحق بالأطفال جراء الحرب الإسرائيلية على غزة.
وجد التقرير، الذي استند إلى مسح شمل أكثر من 500 من مقدمي الرعاية للأطفال المعرضين للخطر، أن 96% من الأطفال في تلك الظروف شعروا بأن "الموت وشيك"، وأن ما يقرب من نصفهم - 49% - أعربوا عن "رغبتهم في الموت" بسبب الحرب.
تفاقمت معاناة سما النفسية بعدما تعرضت للتنمر من قبل الأطفال الآخرين بسبب فقدان شعرها، مما دفعها للانعزال داخل المنزل. أما خارج المنزل، فترتدي وشاحا ورديا لتغطية رأسها.
"ماما، أنا متعبة - أريد أن أموت. لماذا لا ينمو شعري؟" توسلت إلى والدتها، أم محمد، قبل أن تسألها عما إذا كانت ستبقى صلعاء إلى الأبد.
تضيف "أريد أن أموت وأن ينمو شعري في الجنة؛ إن شاء الله"
مع سريان وقف إطلاق النار الهش، بدأ عشرات الآلاف من النازحين الفلسطينيين بالعودة إلى ديارهم باتجاه شمال غزة. دُمّرَ منزل سما بالأرض جراء القصف الإسرائيلي، وبقيت هي وعائلتها في خان يونس، عاجزين عن تحمل تكاليف العودة إلى ديارهم.
عندما زارت "سي إن إن" العائلة، أخبرتها سما "قصف منزلنا، وفي داخله ذكريات كثيرة - صوري وشهاداتي. كان لديّ فساتين وأشياء كثيرة، لكن المنزل دُمّر، ولم أتمكن من رؤيته منذ ذلك الحين".
وأضافت: "تكاليف المواصلات باهظة، وحتى لو ذهبنا، لا توجد مياه، ولا نعرف أين سنقيم".
الصحة النفسية في غزة
لطالما واجه تقديم خدمات الصحة النفسية في غزة تحديات. لكن الدكتور ياسر أبوجامع، مدير برنامج غزة للصحة النفسية المجتمعية، أوضح أنه خلال الحرب التي استمرت 15 شهرا، عانى موظفوه أيضا من صدمة نفسية جعلت من الصعب عليهم علاج الآخرين.
يقول أبو جامع، مدير أكبر برنامج للصحة النفسية في غزة، في مقابلة قبل الاتفاق على وقف إطلاق النار في يناير: "يعمل معظم موظفيّ من أماكن النزوح، ولا يزال أقل من عشرة منهم في منازلهم".
وأضاف: "لا يزالون يواصلون عملهم ويحاولون بث الأمل والدعم في نفوس العائلات أثناء عملهم في الملاجئ".
ومن التقنيات التي ذكرها أن برنامج غزة للصحة النفسية يستخدمها العلاج بالرسم، والذي يسمح للأطفال بالتعبير عن مشاعرهم من خلال التواصل غير اللفظي.
"أريد أن أعود إلى المنزل"
في مخيم النزوح نفسه، يستذكر أطفال آخرون مثل أنس ودعاء أبوعيش اللحظات التي فقدوا فيها والديهم.
يعيش أنس أبوعيش، البالغ من العمر سبع سنوات، وشقيقته دعاء، البالغة من العمر ثماني سنوات، مع جدتهما أم العبد في مخيم للنازحين في منطقة المواصي بخان يونس. فقد الأشقاء والديهم في غارة إسرائيلية.
يقول أنس في مقابلة أجربت معه في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي "كنت ألعب بالكرة، نزلت الدرج فوجدت أبي وأمي في الشارع، ثم جاءت طائرة مسيرة وانفجرت عليهما".
وأكدت الجدة أن الأطفال تأثروا بشدة بما حدث، وأن أنس يمر بلحظات من العدوانية كلما رأى أطفالا آخرين تحتضنهم أمهاتهم.
وأضافت "دائما أذكر الناس بأن يكونوا متفهمين، فقد فقدوا ليس فقط والديهم بل كل ما كان يشعرهم بالدفء والأمان والحنان".
وعندما بدأت "سي إن إن"، مقابلة شقيقته دعاء، صرفت انتباهها بالضغط على أظافرها؛ وبعد ثوان بدأت بالبكاء.
على الرغم من أن منزلهم قريب في رفح، إلا أن أنس ودعاء بقيا في المواصي حتى بعد الاتفاق على الهدنة، غير قادرين على العودة لأنه كان مصنفا ضمن "المنطقة الحمراء" - وهي منطقة يُحتمل استهدافها في حال استئناف الحرب، وهو ما حصل أمس الثلاثاء.
رعب تحت الأنقاض
في مخيم النزوح نفسه، تتذكر منال جودة، البالغة من العمر ست سنوات، بهدوء ليلة تدمير منزلها، ما أسفر عن مقتل والديها واحتجازها تحت الأنقاض.
ووصفت رعب انتظار الإنقاذ "كان هناك رمل في فمي، كنت أصرخ، حفروا بالمجرفة، وكان جارنا يقول: هذه منال، هذه منال". كنت مستيقظة، وعيناي مفتوحتان تحت الأنقاض، وفمي مفتوح، والرمل يتسرب إليه".