الحرب الأبدية بغزة.. إسرائيل واستراتيجية تثبيت الأزمات

منذ أكثر من عام ونصف العام، تعيش غزة تحت وطأة حربٍ مستمرة، حيث يجد المدنيون أنفسهم في قلب صراع مرير، ويدفعون ثمنًا باهظًا جراء معادلات سياسية لا فكاك منها.
الحرب، التي بدأت كدفاع عن الأمن الإسرائيلي، تحوّلت مع مرور الوقت إلى فصول متجددة من المعاناة الإنسانية، لا تحمل في طياتها سوى الدمار.
- «مفاجأة إيران» وحرب غزة وأوكرانيا.. ترامب يفتح كل الملفات بعد لقاء نتنياهو
- إسرائيل تعتبر أنه يحتوي «إشكاليات».. مقترح مصري جديد لهدنة في غزة
ووفق تحليل لـ«فورين أفيرز»، فإن السياسة الإسرائيلية تتجه نحو تكريس الحرب كحالة مستمرة، حيث يبدو أن العمليات العسكرية التي تقودها لا تهدف فقط إلى تحقيق أهداف عسكرية محددة، بل إلى إبقاء الوضع على حاله، مما يؤدي إلى استمرار المعاناة الإنسانية وتفاقم الأزمات في غزة.
وتبدو كل المحاولات لوقف إطلاق النار مجرد استراحة مؤقتة، ليست أكثر من إشارات لحالة من الجمود المستمر.
وفي الواقع، أيّ محاولة لتحقيق تسوية طويلة الأمد تكون رهينة للصراع الداخلي داخل إسرائيل نفسها، بين الرغبة في الحسم العسكري والضغط الشعبي، بالإضافة إلى الضغوط الخارجية من الولايات المتحدة والدول العربية.
أداة سياسية
وبحسب تحليل «فورين أفيرز»، فإن ما يبدو أكثر تعقيدًا هو أن هذه الحرب، التي تدور على الأرض، أصبحت أداة سياسية لرئيس وزراء يواجه تحديات داخلية، يسعى من خلالها إلى تأجيل الحسابات السياسية ومواجهة أزماته.
بنيامين نتنياهو، الذي كان يعتمد على خطاب الأمن لتبرير سياساته، يبدو اليوم عالقًا في دوامة من الحرب المستمرة التي أصبح لها هدف غير معلن: الحفاظ على مكانته السياسية في وجه معارضة متزايدة داخل إسرائيل.
ولا يخفى على أحد أن الحروب، التي بدأت في غزة، تحوّلت إلى محكٍ لصمود الحكومة الإسرائيلية وأركانها، على حساب حياة المدنيين الذين لا ذنب لهم في تأجيج الصراع.
حافز ضئيل لإنهاء الحرب
وبعد أقل من شهرين من التزامه بوقف إطلاق نار مرحلي مع حماس، استأنف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو حرب بلاده في قطاع غزة.
ففي 18 مارس/آذار، شنّت مقاتلات سلاح الجو الإسرائيلي غارات على مواقع عسكرية، أسفرت عن مقتل أكثر من 400 فلسطيني، بينهم أكثر من 300 امرأة وطفل، وفقًا لوزارة الصحة التي تديرها حماس في غزة—وهو عدد مروع حتى مقارنة بمقاييس الحرب السابقة.
وقد سمح وقف إطلاق النار القصير الأجل بالإفراج عن 30 رهينة اختطفتهم حماس خلال هجومها المفاجئ على إسرائيل في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، إضافة إلى استعادة جثامين 8 رهائن آخرين.
الأسبوع الماضي، اقترحت الحكومة الإسرائيلية استئناف وقف إطلاق النار مقابل إطلاق سراح 11 رهينة إضافية وتسليم جثامين 16 آخرين.
لكن حتى لو توصلت حماس وإسرائيل إلى اتفاق جديد قصير الأمد لوقف القتال، فمن غير المرجح أن تنعم غزة بسلام حقيقي في أي وقت قريب.
فمنذ عملية السابع من أكتوبر/تشرين الأول، التي قتل فيها نحو 1,250 إسرائيليًا، يسعى نتنياهو لتحقيق هدفين من خلال عملياته العسكرية في القطاع: تحرير جميع الرهائن، وتدمير حماس.
لكن هذين الهدفين لا يمكن تحقيقهما في آن واحد: فحماس ترفض الانخراط في أي عملية سلام تشمل القضاء عليها، وطالما أن إسرائيل ملتزمة بهذا الهدف، فإن قادة حماس الباقين على قيد الحياة لديهم دافع قوي للاحتفاظ بالرهائن لردع الهجمات الإسرائيلية التي قد تودي بحياتهم.
ويعني ذلك أنه حتى لو استؤنف وقف إطلاق النار، فمن المرجح أن تماطل حماس في الإفراج عن آخر رهائنها، وأن تسعى إسرائيل لتجنب المضي قدمًا في مراحل تسمح لحماس بالبقاء في الحكم، وقد ينهار أي اتفاق مرة أخرى في مراحله النهائية.
وبات نتنياهو مقتنعًا أكثر فأكثر بأن العمل العسكري يعود عليه بالفائدة. فإظهار القوة، في نظره، أضعف إيران وشلّ مليشيا حزب الله التابعة لها في لبنان.
وبينما حاول فريق الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن احتواء التصعيد الإسرائيلي، فإن لدى نتنياهو حليفًا أكثر تساهلًا في الرئيس دونالد ترامب.
وفي مؤشر على العلاقة الوثيقة بين الزعيمين—وأهمية إبقاء ترامب في صفه بالنسبة لنتنياهو—أسرع رئيس الوزراء الإسرائيلي إلى واشنطن الأحد لزيارته الثانية خلال ثلاثة أشهر.
ومع شعوره بالثقة، اقترح الجيش الإسرائيلي خطة واسعة النطاق لإعادة احتلال غزة، فيما بات شركاء نتنياهو من اليمين المتطرف يروّجون علنًا لخطة تهجير معظم سكان القطاع.
لكن من غير الواضح بعد ما إذا كان نتنياهو مستعدًا لتنفيذ أحلام شركائه السياسية الكبرى. فهو مضطر لأخذ موقف ترامب بعين الاعتبار، رغم تقلبه، وأيضًا قدرة الجيش الإسرائيلي على خوض عملية طويلة ومكلفة في غزة.
في الوقت الراهن، الخيار الأفضل لنتنياهو هو على الأرجح المضي في طريق وسط يبقي خياراته مفتوحة ويحافظ على ثقة حلفائه بأنه إلى جانبهم—وهذا الطريق الوسط يتضمن استمرار العمليات العسكرية في غزة.
لعبة الثقة في السياسة
عندما بدأت إسرائيل حربها في غزة قبل 18 شهرًا، كان هناك إجماع شبه تام بين الإسرائيليين على ضرورة القضاء على حماس. لكن سرعان ما اتضح أن هدفي الجيش الإسرائيلي—تأمين الإفراج عن الرهائن وتدمير حماس—لا يمكن تحقيقهما في الوقت نفسه.
حتى بافتراض إمكانية القضاء على حماس، فإن ذلك سيستغرق سنوات، أما الرهائن الإسرائيليون، فلا يملكون هذا القدر من الوقت.
ووفقًا لتحليل أجرته صحيفة نيويورك تايمز، فإن 41 رهينة لقوا حتفهم في الأسر بين أكتوبر/تشرين الأول 2023 وأوائل مارس/آذار 2025، بعضهم مات جوعًا أو بسبب المرض أو القتل، وآخرون لقوا حتفهم بالخطأ خلال العمليات العسكرية الإسرائيلية.
أما أولئك الذين عادوا من غزة فقد تحدثوا عن ظروف احتجاز قاسية للغاية.
ولأن إسرائيل لم تُحدد أولوية واضحة بين الهدفين، فإنها لم تحقق أيًا منهما حتى الآن.
فمنذ بداية الحرب، قتلت إسرائيل معظم قادة حماس البارزين، بمن فيهم قائد الحركة في غزة، يحيى السنوار.
لكن التنظيم لا يزال يحتفظ بهيكل حوكمي، ومن أجل ردع محاولات الاغتيال الإسرائيلية، يسعى قادته الباقون إلى الحفاظ على ما يشبه "درعًا بشريًا" من خلال الاحتفاظ بعدد قليل من الرهائن، معظمهم من الجنود، كنوع من التأمين.
لكن هذا غير مقبول لنتنياهو. فهو يرى أن أمامه خيارين فقط: استسلام حماس الكامل وطرد قيادتها من غزة، أو استمرار الحرب حتى تحقيق ذلك الهدف بالقوة.
وفي السيناريو الثاني، سيُلقي باللوم على حماس في حال مقتل رهائن إضافيين.
أما الأمل بأن تمارس الولايات المتحدة ضغطًا على إسرائيل للالتزام بوقف إطلاق نار دائم فقد تلاشى مع تولي ترامب الرئاسة.
ورغم أن ترامب ضغط على نتنياهو للموافقة على وقف إطلاق النار في يناير، فإن سياسة إدارته أصبحت أكثر تخبطًا منذ ذلك الحين.
وكل بضعة أيام، يقدم الفريق الأمريكي مقترحات جديدة، لكن النقاشات تبقى عالقة؛ فترامب يتأرجح بين اللامبالاة تجاه الصراع وأفكار خيالية، مثل اقتراحه في فبراير/شباط بأن تتولى الولايات المتحدة "ملكية" غزة وتحولها إلى "ريفيرا" سياحية.
وعلى الملأ، يدعم ترامب كل ما تقوم به إسرائيل. لكن إدارة ترامب لم تتعامل فعليًا مع التناقض الجوهري الذي يعوق مفاوضات السلام الجدية: فنتنياهو يُصر على أن أي وقف لإطلاق النار يجب أن ينتهي بتفكيك حماس.
وهذا خط أحمر لا تقبل به حماس، رغم أن تقارير أشارت إلى أنها قد تفكر في التنازل عن سلطتها السياسية مقابل الحفاظ على قوتها العسكرية—وهو نوع من التسوية يتم اختباره حاليًا في لبنان بموافقة حزب الله.
لكن لا الأمريكيون ولا الوسطاء العرب من مصر وقطر نجحوا في إقناع قادة حماس بالتوقيع على اتفاق يتخلى عن هدفهم السياسي الأساسي.
شقوق خفية وتحديات داخلية
ثمة تطورات أخرى جعلت من غير الملحّ لنتنياهو البحث عن تسوية. فالجيش الإسرائيلي استعاد جزءًا كبيرًا من عافيته بعد صدمة السابع من أكتوبر/تشرين الأول.
وتم تقويض قدرة حماس على تنفيذ هجمات واسعة أو إطلاق صواريخ على نطاق كبير. وعلى جبهات أخرى، باتت إسرائيل في موقع القوة.
ففي نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، أُجبرت حزب الله على قبول وقف إطلاق نار مُهين، ورغم استمرار الضربات الجوية الإسرائيلية على أهدافه في جنوب لبنان (وأخيرًا في بيروت الأسبوع الماضي)، فإن الحزب المتهالك لم يرد بعد.
أما تبادل الضربات مع إيران في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، فكان محرجًا لطهران.
وبعد انهيار نظام بشار الأسد في ديسمبر/كانون الأول، سيطرت إسرائيل على أجزاء من جنوب سوريا.
وبدافع من هذه الانتصارات، بات نتنياهو أكثر جرأة، يرد على الاستفزازات باستخدام القوة العسكرية بدلاً من احتوائها كما كان يفعل سابقًا.
ففي منتصف مارس/آذار، مثلًا، وبعد سقوط 6 صواريخ على الأراضي الإسرائيلية، قصفت إسرائيل مستودعًا لطائرات حزب الله المسيّرة في جنوب بيروت، رغم أن الجهة المسؤولة عن إطلاق الصواريخ لم تُعرف.
وخلال عهد بايدن، كانت الإدارة الأمريكية تسعى لكبح جماح اليمين الإسرائيلي وتوفير تدابير لحماية المدنيين في غزة.
ولكن مع التقلبات السياسية التي تشهدها إدارة ترامب، أصبحت إسرائيل أكثر استقلالية في اتخاذ قراراتها العسكرية. ورغم ضغوط المجتمع الدولي، يبدو أن صراع غزة سيظل في دائرة مغلقة.
aXA6IDE4LjIyMS4yMC4yNTIg
جزيرة ام اند امز