يعيش الشرق الأوسط في هذه اللحظة المفصلية حالة أشبه بمخاض معقد وشائك، وها نحن اليوم على أعتاب تحولات تاريخية تتبدل فيها الخرائط وتعيد الجغرافيا رسم ملامحها بما يتجاوز الحدود المرسومة على الورق.
فالعواصف التي اجتاحت المنطقة منذ خمسة عشر عاما تقريبا، تلوح إشارات وعلامات أنها ستهدأ، وقد يظهر خلف غبارها مشهد يتكوّن بتدرّج محسوب، تمسك بخيوطه قوى إقليمية ودولية وخليجية تعيد صياغة معادلة الأمن والسيادة في الشرق القديم.
ومع انحسار ألسنة النار في غزة خلال يومين أو ثلاثة، سوف تتشكل ملامح سلام في الأفق، يحمل مضمونه خليطا من الطموح الأمريكي والحسابات الإسرائيلية والرؤية الواقعية لعدد من الدول العربية التي تسعى إلى عبور زمن الفوضى نحو مرحلة استقرار محسوبة ومشاريع إعمار تُعيد بناء ما تهدّم.
خطة السلام التي طرحها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ستكون بلا شك، مفتاحا لتوازنات جديدة تمتد من فلسطين إلى سوريا والعراق وكذلك إلى اليمن بشطريه الجنوبي والشمالي، وأظن أنهم قد بدؤوا فعلا وضع خريطة طريق لإعادة ترتيب الشرق الأوسط، تُعيد توزيع الأدوار بين القوى الفاعلة، وتُبرز مراكز نفوذ جديدة تمسك بخيوط الجغرافيا من المتوسط حتى بحر العرب.
وبينما تُرسم ملامح المستقبل في غزة عبر مبادرات اقتصادية وتنموية واسعة، علينا التفكير بجدية حول مصير دولة الجنوب العربي، حيث يتهيأ المشهد لمرحلة تُعيد للمنطقة موازينها وتضع الجنوب في قلب الحدث لا في أطرافه.
ما أراه سيحدث قريبا، حسب تحليلي، أن المحطة التالية ستكون صنعاء المحتلة، وستبدأ صفحة صراع دامية هناك، حيث تشكّل مليشيات الحوثي آخر الحلقات المتبقية في مشروع الفوضى الإقليمي.
لذلك، وقبل اقتراب لحظة الحسم، لابد أن تتجه الأنظار نحو الجنوب العربي الذي يحتضن القوة البرية الأكثر استعدادا لتنفيذ مهام دقيقة في مواجهة التطرف واستعادة التوازن الأمني.
فكما نعلم أن الجنوب يمتلك جيشا صلبا، عركته التجارب، وتمرّس في حماية أرضه وممراته البحرية الحيوية، ما يجعله محورا رئيسيا لأي عملية دولية تسعى لتطهير شمال اليمن من المليشيات والجماعات الإرهابية.
في تلك اللحظة سيكون الجنوب العربي الوجه العسكري والسياسي الجديد الذي يحمل راية الأمن في زمن التحولات الكبرى.
المعادلة الجديدة لا تقوم على المعارك وحدها، بل على الرؤية العميقة التي تجمع بين الأمن والتنمية، بين الإرادة الشعبية والتحالفات الدولية.
فالقوة الجنوبية التي وُلدت من رحم المعاناة تحولت إلى ركيزة استقرار في الإقليم، وإلى نموذج يُحتذى في تنظيم الجهود العسكرية والأمنية على أسس مؤسسية منضبطة.
ولقد أدرك أبناء الجنوب أن السلام الدائم لا يُصان إلا بالقوة العاقلة، وأن حماية الأرض تكتمل حين تندمج العقيدة العسكرية مع مشروع سياسي وطني واضح المعالم. هذه الحقيقة هي التي جعلت من الجنوب اليوم شريكا معترفا به في معادلات الأمن الإقليمي، ومفتاحا أساسيا في أي مشروع يهدف إلى إعادة بناء اليمن والمنطقة برمتها.
ومن بين أصوات العالم مثلا، التي اطلعت عليها وتابعتها، ترددت في لندن أصداء المذكرة البرلمانية البريطانية الصادرة في سبتمبر/أيلول من عام 2025، التي أعادت إلى المشهد الدولي اسم الجنوب العربي بوصفه كيانا سياديا يستحق الاعتراف والدعم.
تلك المذكرة كانت أكثر من موقف سياسي؛ كانت إقرارا بأن التاريخ لا يُمحى وأن الشعوب التي تمتلك جذور السيادة تعود دوما لتكتب حضورها من جديد. فالمجلس الانتقالي الجنوبي نجح عبر دبلوماسيته النشطة في إيصال رسالة أن الجنوب هو وطن يمتلك مؤسساته ورؤيته وشعبه القادر على رسم طريقه.
ومع هذا التحول الدبلوماسي، وما جرى في الأمم المتحدة الأسبوع الماضي، من لقاءات ومحاضرات تولاها القائد عيدروس الزبيدي، رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي، بدأت القضية الجنوبية تتقدم في المحافل الدولية كقضية حرية وعدالة إنسانية بارزة وحاضرة بشكل لا يقبل الجدل.
الروح الإنسانية للجنوب العربي. تحكي قصتها هذه الأرض التي جمعت البحر بالجبل، واحتضنت تنوعا حضاريا يمتد لقرون، تحمل في قلبها ثقافة الحوار والانفتاح. منها انطلقت مفاهيم الحرية والمشاركة، وفيها تتجسد فكرة الدولة كملاذ آمن للإنسان.
فالدولة الجنوبية تمثل الكرامة والعدل، وتعيد للسياسة معناها الأخلاقي، حيث تتكامل القيادة مع الشعب في بناء مستقبل متين الأسس واضح الرؤية. ومن خلال هذه الفلسفة تنبثق روح الجنوب كجسر حضاري يربط بين الشرق والغرب، بين التاريخ والمستقبل.
القيادة الجنوبية الحالية، كما تظهر دائما، تمثل صوت العقل والاتزان، فهي تجمع بين الحلم والرؤية، وتعمل بصمت وإصرار على بناء الدولة الحديثة. اللقاءات التي جمعت الرئيس عيدروس قاسم الزبيدي مثلا برئيس وزراء اليمن الدكتور سالم بن بريك تمثل خطوة قد يلمس بعدها المواطن الجنوبي حضورا في صميم القرار الوطني. فكما أعلم وأثق، أن القيادة الجنوبية تسير بثبات، فهي تحوّل الطموح إلى فعل، وتمنح العمل الحكومي روحا جديدة تقوم على الشفافية والكفاءة والانتماء.
يجب أن يرافق استقرار غزة خطة فورية لنهوض الجنوب، سواء في الجانب القانوني لاستعادة مقعد الأمم المتحدة، أو عمل المؤسسات على أسس العدالة والإنصاف، بحيث يكون الجنوب العربي ركنا أساسيا في التحولات المرتقبة، وأن يكون جاهزا بدولته القادمة، بروح مثابرة لا تعرف اليأس، ومع جيشه المنظم، وقيادته الواعية، لا شك أنه سيكتب في سجل الشرق الأوسط فصلا تاريخيا حاسما، ويحتاج ذلك أقلاما تحمل وعي القوة، وروح السلام، وعزيمة الإنسان العربي الذي قرر أن يصنع مستقبله بيديه.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة