إن الذي يحكم غزة الآن وسيحكمها الأشهر المقبلة، وأخشى أن أقول بالسنوات المقبلة، هو الألم والوجع الكبير الذي من الصعب أن نتكلم عن حدوده وعمقه، ومفرداته دون أدنى شك، ذاك المواطن الفلسطيني المنكوب بكل ما لهذه الكلمة القاسية من معانٍ مخيفة.
والحقيقة أن قطاع غزة، لم يكن قد تنفس الصعداء بعد، حين رحل عنه الاحتلال الإسرائيلي عام 2005، حتى جاء الانقلاب العسكري الذي دشنته حركة حماس وقتها على السلطة الفلسطينية عام 2008، لينفرد بعد ذلك إسماعيل هنية رئيس الحركة ورفاقه في زرع بذور انقسام سياسي فلسطيني غير مسبوق، وحرب ضروس بين طرفين فلسطينيين، حاول العرب في أكثر من مرة إنهاء فصولها المتعبة والمستغربة.
ومع أن غزة كانت على موعد عام 2011 مع يحيى السنوار القيادي الحمساوي الذي خرج من سجون إسرائيل في صفقة الجندي الأسير شاليط، التي شارك السنوار شخصياً في هندسة بعض زواياها من داخل أسوار سجنه، بتنسيق مع سجانيه الإسرائيليين طبعاً، فإن السنوار آنف الذكر، صدم العالم بأسره بعد ذلك، من خلال مخطط عسكري سري، بات يُسمى «أحداث 7 أكتوبر».
وبدون إغراقٍ مملٍ في تاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي المستعصي على الحلول، لا بد أن يُقال إن ما تشهده غزة اليوم، جعل المنطقة برمتها أمام بركان ضخم من العدوان والمغامرات والسجالات والحسابات التي لا يعرف أحدٌ متى تنتهي تبعاتها الكارثية.
وفي وقتٍ أصبح به الاحتلال الإسرائيلي البري لبلدات القطاع واقعاً مراً تنقله الأخبار وتغطيه القنوات، ورصيف الرئيس الأمريكي جو بايدن العائم والغامض قبالة شواطئ غزة جسماً ماثلاً للعيان، ومفاوضات الهدن الماراثونية بين باريس والقاهرة والدوحة، وجولات الوفود العربية الإسلامية حدثاً يتكرر كل شهر، لا بد هنا من القول إن ما ينتظر غزة ببشرها وما تبقى من حجرها أصعب من أن تؤرخه الكلمات أو تغطيه النشرات.
وتطلُ بين حين وآخر إيران ومعها مليشياتها بخطابات وقودها العنتريات والشعارات، دون إحداث أي فارق يذكر في المشهد المحتدم، بل لتصب على نار الحرب زيت الانتصارات الوهمية، ويقابلها في هذا نفسٌ يمينيٌ متطرفٌ، يفرح له بنيامين نتنياهو رئيس الحكومة الإسرائيلية، ويزيد من وتيرتها ثنائيٌ استيطانيٌ متشدد وصاعدٌ، بزعامة الوزيرين سموتريتش وبن غفير.
والسؤال المؤجل يبقى بكل حسرة: إلى متى سيبقى الحال على ما هو عليه؟، وهو سؤال مهمٌ لعل النطق به سهلٌ، لكن الإجابة عنه، ليست من الصعوبة بمكان بقدر ما تكون مستحيلة في كثير من الأحيان؛ فلا الرئيس الأمريكي جوزيف بايدن يستطيع الآن إجبار قادة تل أبيب على القبول بشروط الفصائل في غرف المحادثات السرية، ولا الفصائل بزعامة كتائب القسام تصغي لما يقوله الوسطاء العرب الساعون لإيقاف تدفق سيل الدماء في غزة بأسرع وقت.
وحين يحاول كاتبٌ مثلي أن يضيف للقصة المحزنة بارقة أمل تتمثلُ على الأقل بمعلومة هنا أو تسريب هناك، فإن جدار الحملات الانتخابية الأمريكية الذي يرتفع شيئاً فشيئاً، يكادُ يحجب الرؤية، وينسف بالمجمل فصول رواية الأمل التي يتوق لها سكان غزة، كي تعود حياتهم إلى ما كانت عليه ولو بعد حين.
وبطبيعة الحال، لن تكون بيد الحزب الديمقراطي الأمريكي أوراقٌ قوية للزج بها إذا فاز الرئيس بايدن مجدداً، لكن الرئيس السابق دونالد ترامب والمرشح الرئاسي الحالي بقوة، هو الأكثر حديثاً عن خطة متكاملة لإنهاء الصراع في الشرق الأوسط، دون ذكر أي تفاصيل منطقية أو خطوات جدية.
وإزاء جردة حساب معقدة، يمكن للقارئ الكريم أن يستشعر حجم الخطر المحدق، في ظل وجود خلافات مستحكمة، جعلت جميع الأطراف في خندق المزايدات السياسية والإعلامية بإسرائيل والقطاع، وكما يقول ابن خلدون في مقدمته الشهيرة: "إن الشعوب المقهورة تسوء أخلاقها"، سنستعير منه بتصرف كلاماً مفاده: إن الحروب المسعورة تورث الشعوب جراحاً نازفة يصعب معالجتها بين عشيةٍ وضحاها، لأن ضحايا الحروب ليسوا أرقاماً في بورصة المليشيات أو المعتدين.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة