ما بين دولة الإمارات وجمهورية الصين الشعبية ما صنع التاريخ وشهد عليه ووثقه، وما بين زعمائها ماضٍ لم ينسه الزمن وحاضر شاهد على ما فات ومستقبل ينتظر ما هو آتٍ.
وأحدث ما هو آتٍ تلك الزيارة التي يقوم بها الشيخ محمد بن زايد آل نهيان إلى الصين، في زيارة محورية تتخطى كونها رحلة دبلوماسية عالية المستوى إلى ما هو أبعد من ذلك وأعمق، إذ تبني جسراً يربط بين بلدين لطالما تزيّنت علاقتهما بالشراكة والتعاون والاحترام المتبادل.
زيارة يواصل فيها الشيخ محمد بن زايد آل نهيان مسيرته الواثقة والثاقبة نحو تعزيز العلاقات الدولية لدولة الإمارات العربية المتحدة وتوطيد روابطها مع الدول الكبرى، لا سيما في هذا التوقيت الذي يشهد فيه العالم أزمات تعالت صيحاتها شرقاً وغرباً مستنزفة جهوداً دبلوماسية وإنسانية لا تكلّ ولا تملّ، سعياً بكل قوة لإرساء الأمن والأمان والاستقرار.
ولا يخفى على أحد أن هذه الزيارة تحمل في طياتها الكثير من الرسائل التي تصب جميعها في رؤى السلام والتعاون، إذ تعكس الزيارة -التي بالتأكيد تستحوذ على الكثير من الاهتمام العالمي- ما هو أبعد من حدود العلاقات الثنائية، لتلامس قضايا عالمية في وقت تكبّل فيه العالم أزمات متشابكة ومعقدة.
وما يضاعف من أهميتها أنها تأتي في وقت تحتفي فيه دولة الإمارات العربية المتحدة وجمهورية الصين الشعبية بالذكرى الأربعين لإقامة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، ما يُضفي على الزيارة رمزية تاريخية تعكس عمق العلاقات التي بدأت عام 1984 مع تدشين العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، ليفتح التاريخ كتابه سارداً وشاهداً على بداية قصة نجاح استثنائية في عالم السياسة الدولية والعلاقات الثنائية.
أربعة عقود من الزمن مضت، تواصلت خلالها الجهود الحثيثة لتعزيز العلاقات بين البلدين وتوطيدها، إذ شهدت نمواً مطرداً وتعاوناً مثمراً في شتى المجالات، من الاقتصاد إلى الثقافة، ومن التكنولوجيا إلى التعليم، ما جعلها نبراساً ينير طريق العلاقات الدبلوماسية القائمة على أسس الاحترام والتكاتف، ويعزّز من مكانة البلدين على الساحة الدولية. أربعة عقود أفضت إلى توقيع أكثر من 148 اتفاقية ثنائية ومذكرة تفاهم، تشمل مختلف المجالات الاقتصادية والثقافية والتكنولوجية.
وعلى مدار العقود الأربعة الماضية، مرّت العلاقات الثنائية بمحطات عدة، لعل أبرزها حينما زار الرئيس الصيني الراحل يانغ شانغ كون دولة الإمارات وعقد لقاءً مع المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان في ديسمبر/كانون الأول 1989، وبعدها أجرى الشيخ زايد زيارة رسمية إلى الصين في مايو/أيار من عام 1990، هي الأولى من نوعها التي يقوم بها رئيس دولة خليجية إلى الصين، في حين زار شي جين بينغ رئيس جمهورية الصين الشعبية، الإمارات، وتم الإعلان خلالها عن إقامة "الشراكة الاستراتيجية الشاملة".
ليأتي عام 2019 وتشهد العلاقات الإماراتية- الصينية نقلة نوعية مع الزيارة التي قام بها الشيخ محمد بن زايد آل نهيان في يوليو/تموز من العام نفسه حينما كان ولياً للعهد، إذ عقد مع الرئيس شي جين بينغ مباحثات ثنائية تم خلالها التأكيد على تعزيز الشراكة الاستراتيجية الشاملة.
غير أن زيارة الشيخ محمد بن زايد آل نهيان هذه المرة للصين، وهي الأولى منذ توليه رئاسة الدولة، تأتي في ظل ظروف عالمية مغايرة، إذ الأزمات الاقتصادية تلقي بظلالها على الدول، والتحديات البيئية تقضّ مضاجع الشعوب، وأحداث عالمية تزرع الفزع في القلوب.
وفي هذا السياق، تبرز أهمية التعاون الدولي والشراكات الاستراتيجية كأدوات لا غنى عنها لمواجهة هذه التحديات، ومن هنا تأتي زيارة الشيخ محمد بن زايد آل نهيان إلى الصين، إذ تحمل بين ثناياها معاني العزم والإصرار على بناء عالم أفضل، عالم يتسم بالتعاون والتكامل بين الشعوب، وينبذ الفرقة والانقسام والحروب.
فلا شك أن دولتي الإمارات والصين تلعبان دوراً محورياً ورئيسياً في تعزيز الاستقرار والأمن والتنمية المستدامة على المستويين الإقليمي والدولي، ولذلك فالتعاون الثنائي بينهما لا يصبّ فقط في صالح البلدين، لكن يلقي أيضاً بظلاله على المنطقة، بل العالم بأكمله لينثر ثماره على جميع المجالات من بينها الطاقة المتجددة والتكنولوجيا والاقتصاد والتجارة، ويبني درعاً حصينة لمواجهة التحديات العالمية مثل التغير المناخي والأمن الغذائي والأزمات الاقتصادية.
ولأن الاقتصاد هو الجسر المتين لبناء العلاقات بين الدول؛ إذ يوثّق عرى التعاون، ويمهّد الطريق لتحقيق السلام والازدهار المشترك، فإن الشراكات التجارية بين دولتي الإمارات والصين تمثّل حجر الزاوية في العلاقات الثنائية بين البلدين، فقد بلغت التجارة الخارجية غير النفطية بينهما في عام 2023 نحو 296 مليار درهم (81 مليار دولار)، مسجلة نمواً بنسبة 4.2% مقارنة بالعام السابق. وتُعد الصين الشريك التجاري الأول للإمارات في مجال التجارة غير النفطية، إذ تستحوذ على نسبة 12% من هذه التجارة.
كما تحتل الصين المرتبة الثالثة كأكبر مستثمر عالمي في دولة الإمارات، إذ بلغت الاستثمارات نحو 7 مليارات دولار بنهاية عام 2021، في المقابل، بلغت الاستثمارات الإماراتية في الصين نحو 2.3 مليار دولار بنهاية عام 2022، في قطاعات حيوية مثل الاتصالات، والطاقة المتجددة، والنقل والتخزين، والفنادق والسياحة.. هذه الأرقام ليست مجرد بيانات اقتصادية، وإنما هي شواهد حية على متانة العلاقات وعمق التعاون بين البلدين.
ولا تقتصر العلاقات بين الإمارات والصين على الجوانب الاقتصادية والسياسية فقط، وإنما تمتد لتشمل التعاون الثقافي والتعليمي، ما شكّل منارة أضاءت دروب التفاهم بين الدولتين، بعدما نسجت خيوط المعرفة والمحبة، وعمّقت الروابط الإنسانية ورسّخت التواصل الحضاري بين شعبيهما، لِمَ لا وقد أولت دولة الإمارات اهتماماً كبيراً بالثقافة الصينية، إذ تُدرّس اللغة الصينية في العديد من المدارس الإماراتية، وبالمثل يحدث في الصين، إذ يُعد مركز الشيخ زايد لدراسة اللغة العربية والدراسات الإسلامية في بكين منارة إشعاع ثقافي وحضاري.
ما سبق صنع حالة خاصة للعلاقات الصينية الإماراتية، وهو ما ينعكس على زيارة الشيخ محمد بن زايد آل نهيان التي تعزّز تعاوناً ليس مجرد شراكة استراتيجية، وإنما هو نموذج يُحتذى به في مجال التعاون الدولي، ورؤية مستقبلية لعالم أكثر تعاوناً واستدامة، وهو ما يعزّزه دور دولة الإمارات كفاعل دولي يسعى لتحقيق الاستقرار وبناء عالم أفضل، عبر تعزيز الحوار والتسامح والتعاون بين الجميع.
نقلا عن شبكة تلفزيون الصين الدولية CGTN Arabic
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة