تمثل زيارة قادة أربع دول عربية، هي الإمارات العربية المتحدة، مصر، تونس، والبحرين، إلى الصين هذا الأسبوع أهمية كبيرة على صعيد العلاقات الدولية والتوازنات الإقليمية، خصوصاً أنها تتزامن مع انعقاد المؤتمر الوزاري العاشر لمنتدى التعاون العربي-الصيني.
ما يحمل في طياتها دلالات سياسية واقتصادية كبيرة، في ظل التصعيد الإقليمي على أثر حرب غزة، مع الأخذ في الاعتبار التوازن في العلاقات مع الولايات المتحدة.
الحضور العربي الرفيع في بكين يعكس إشارة قوية على مستوى الشراكة المتنامية بين الصين والدول العربية، فمن الواضح أن هناك حرصا من الطرفين على تعميق العلاقات وتعزيزها، في وقت تشهد فيه المنطقة والعالم تغيرات سياسية واقتصادية جذرية، وهذا ليس غريبا، فالصين تعد شريكا اقتصاديا لعدد من الدول العربية المحورية، إذ تنامت العلاقات العربية الصينية بشكل واضح منذ تولي الرئيس الصيني شي جين بينغ السلطة عام 2013، وفي وقتنا الراهن تحتفظ نحو 12 دولة عربية بعلاقات شراكة استراتيجية تكاملية مع الصين، فتقارب الاستثمارات الصينية في الدول العربية تبلغ 250 مليار دولار، بينما يبلغ حجم التجارة بين الجانبين نحو نصف تريليون دولار.
لقد كانت لاستباقية الإمارات في تكامل علاقتها الاستراتيجية مع الصين الأثر الكبير في تنامي العلاقات العربية الصينية، فالإمارات أكبر شريك تجاري للصين في العالم العربي، إذ تمر 60% من التجارة الصينية ويعاد تصديرها من الموانئ الإماراتية إلى المئات من المدن العربية، وهناك 350 ألف صيني مقيم بالإمارات ونحو 8000 شركة صينية، وزيارة رئيس دولة الإمارات الشيخ محمد بن زايد آل نهيان إلى بكين تأتي مباشرة بعد زيارة سموه الرسمية إلى كوريا الجنوبية، التي تزامنت كذلك مع انعقاد منتدى الأعمال الإماراتي-الكوري، ما يعكس الرغبة الإماراتية في تعزيز الحضور الإماراتي الدولي الفاعل، وتدعيم الشراكة المتقدمة جداً مع سول وبكين.
سيسهم الانفتاح المصري البحريني التونسي مع الصين في جذب الاستثمارات الصينية، ما سيشكل رافعة لتحريك اقتصاداتها عبر تنويع الشراكات الاقتصادية، فالانفتاح مع بكين بات ضرورة ملحة في ظل المتغيرات الدولية الجيوسياسية، كونها نجحت في تعزيز ثقلها الدولي باعتبارها ثاني أكبر اقتصاد في العالم، ونجاحها في منافسة الرأسمالية لتصبح شريكا رئيسيا في الاقتصاد العالمي، وقادرا على ملء الفراغات في الأسواق العالمية، الأمر الذي جعل العالم أكثر توازناً ولو نسبياً، إذ لم يعد الغرب يهيمن وحده على السياسة والاقتصاد، وهي بلا شك وضعية ستستفيد منها الاقتصادات الناشئة والمتوسطة.
لا يزال الوقت مبكراً لتغير النظام الدولي، والدليل ما جرى في غزة من جرائم بحق الإنسانية بغطاء غربي، وقد يكون المشوار طويلا لنصل إلى توافق دولي حول التوازنات الدولية، كما حصل ما بعد الحرب العالمية الثانية، ولكن هذا لن يعيق توجهات مختلف دول العالم الطموحة، بما فيها بعض الدول الأوروبية في التوجه نحو الصين، في ضوء الحاجة للتعاون الاقتصادي مع قوة عالمية تجنبت الصراعات والحروب مع الغرب، رغم اشتداد حدة التنافس الجيوسياسي، وتقدم اليوم نموذجا متفوقا للتكامل الاقتصادي الذي بات علامة مؤثرة على استقرار الاقتصاد العالمي، والدول العربية أدركت أن الصين شريك استراتيجي موثوق ممكن التعاون معه، وسيحقق التنوع في الشراكات الدولية في ظل سياسات غربية مزدوجة المعايير، شاهدنا قدر ازدواجيتها لو قارنا بين الحالة الأوكرانية وأحداث حرب غزة.
وفي ظل التنافس الجيوسياسي بين الولايات المتحدة والصين تسعى الدول العربية إلى تحقيق توازن دقيق في علاقاتها مع القوتين، إذ تعتبر واشنطن حليفا رئيسيا للعديد من الدول العربية، خاصة في المجالات السياسية والأمنية والاقتصادية. ومع ذلك تدرك هذه الدول أهمية تنويع شراكاتها الاقتصادية والدبلوماسية لضمان مصالحها الاستراتيجية على المدى الطويل، وأعتقد أن النموذج الإماراتي هو أكبر دليل على إمكانية تحقيق ذلك التوازن.
فسياسة الإمارات جاذبة خاصة في توازنها بين الشرق والغرب، إذ حققت تكاملا اقتصاديا واسعا مع روسيا والصين، وانضمت رسمياً إلى مجموعة بريكس، بينما في الوقت نفسه تعزز العلاقات مع الولايات المتحدة في عدة مبادرات، ولعل أبرزها الممر الهندي التجاري والاستثمار في مجالات الذكاء الاصطناعي، في مؤشر أن تحقيق التوازن ممكن، والنموذج الإماراتي الجاذب يتعاون مع العالم كافة بعيداً عن سياسة المحاور، ما جعل سياسة التوازن الإماراتية تجذب الدول العربية إلى اتخاذ خطوات مشابهة، فزيارة القادة العرب إلى الصين خطوة في هذا الاتجاه، إذ يسعون إلى بناء علاقات متوازنة مع الصين، دون أن يؤثر ذلك سلبا على علاقاتهم مع الولايات المتحدة.
لقد أدرك العرب أهمية تنويع العلاقات الدولية، والشراكات الاقتصادية بما يتناسب مع التحديات الراهنة والمستقبلية، فلم يعد الغرب هو المصدر الوحيد للسياسة والاقتصاد، والتعامل مع الصين يقدم نموذجا مختلفا للتعاون بعيداً عن الضغوط السياسية، والتدخلات في شؤون الدول واستخدام أدوات الضغط لتحقيق مكتسبات وفرض الإملاءات والشروط، وهذا التحول في التفكير العربي على المستوى السياسي الاستراتيجي سيضمن بناء مستقبل مستقر ومزدهر ومستدام.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة