تتجه الصراعات والنزاعات الإقليمية والدولية إلى منحى جديد في بدايات العام 2024، لأسباب عدة.
أهم تلك الأسباب: عدم حدوث تغيرات مفصلية في بنية النظام الدولي الجديد، وعدم وجود مقاربة حقيقية لحل، أو تفكيك عناصر الأزمات في ظل انشغال الدول الكبرى والصغرى بمشاكلها، وعدم وجود ما يشير إلى توجهات حقيقية للحل، أو التوصل لحلول حقيقية نهائية.
ومن ثم، فإن العالم سيتعايش مع تبعات الأزمة الأوكرانية الروسية، كما تعايش مع مخاطر ما يجري من أزمات دولية مكبوتة، وانطلاقا من توافقات حقيقية تشمل دول العالم، والأقاليم التي تتواجد فيها الصراعات الكبرى، والتي تتسبب في مواجهات جديدة، حيث ما زالت الدول الغربية، والولايات المتحدة على وجه الخصوص تصعد في مواجهة روسيا من خلال منظومة العقوبات الحالية، والتي لا تزال موجعة للاقتصاد الروسي.
كما أن روسيا تناكف السياسة الغربية في بقاع عدة في العالم، ومن غير المنتظر على الأقل في الأشهر الستة الأولى من العام 2024، أن يحدث تطورات هيكلية في مسار ما يجري، خاصة وأن روسيا ماضية في مخططها باستكمال العملية الروسية في العمق الأوكراني، وتقطيع أوصال الدولة الأوكرانية، وعدم إتاحة الفرصة للجانب الأوكراني للتعامل.
وسيظل حلف الناتو يواجه إشكالية توحيد العقائد، وتحديد المهام الدفاعية والهجومية مع الاستمرار في بناء استراتيجية جديدة في إطار حالة الانقسامات الكبرى بين دوله، واحتمالات الاتجاه إلى بناء الفيلق الألماني الفرنسي مرة أخرى.
كما أنه من المتوقع تزايد مساحات التجاذب بشأن السياسات الدفاعية، والتي تتعلق بمصادر وحجم الإنفاق العسكري الذي تزايد بصورة كبيرة في بنية الجيوش الأوروبية، والتي تتخوف من ارتدادات ما قد يجري، ويمس بنية النظام الدولي الراهن، ومسعى الجانب الصيني الروسي لتسويق خيار عالم متعدد الأقطاب في مواجهة المد الغربي الراهن، والذي يعمل للحفاظ من - خلال القوة الأمريكية - على إبقاء النظام الدولي على ما هو عليه، مع الإقرار باستراتيجية السياسة الأمريكية في الدفاع عن العالم، ومواجهة ما يجري في كثير من الصراعات الإقليمية والدولية، والتي تتداخل فيها المصالح الكبرى للدول، ومنها صراعات شرق المتوسط، وما يجري في البحر الأحمر وباب المندب والممرات الأخرى من ترتيبات ومسعى الإدارة الأمريكية لتحديد ضوابط المرور، ومواجهة أية تحركات غير مسؤولة من مليشيات الحوثي، والتي تتعامل انطلاقا من حسابات حذرة حقيقية قد تدفع في العام الجديد لمزيد من الصراعات والصدامات شبه الكاملة، ما يؤكد على أن المصالح قد تتداخل وقد تتفاعل، في إطار استراتيجية محددة ومنضبطة قد تسعى إلى تحقيقها الولايات المتحدة في العالم، وليس فقط في الشرق الأوسط، مع التحسب الصيني الروسي لما يجري.
ومن المتوقع أن تتفاعل التكتلات الإقليمية والدولية، كما أن تجمعات الدول الصناعية والعشرين، وكذلك الآسيان وشنغهاي ستعمل وفق حسابات جديدة مع التحركات الصينية الكبرى لاستكمال مبادرة الحزام والطريق، والانتقال إلى توسيع عضوية دولها مع العمل في بيئة مختلفة في العام 2024، من خلال التركيز على بناء شبكات كبرى من خطوط الغاز والنقل اللوجستي، وإقرار استراتيجية البديل بالنسبة للممرات العالمية تخوفا من مخاطر وتهديدات ما يجري في الصراعات الراهنة سواء في الشرق الأوسط، أو في دول الجنوب.
ذلك يؤكد أننا سنكون مع العام الجديد 2024 في اتجاه تحولات مفصلية في بنية النظام الدولي من خلال وحداته، ودوله التي تعمل للحفاظ على مصالحها الكبرى في المديين القصير والطويل الأجل خاصة، وأن الولايات المتحدة مقبلة أيضا على انتخابات رئاسية قد تعيد الأمور في نصابها، وفي ظل حالة من الانقسام غير المسبوق في الكونغرس، ومجلس الشيوخ حول جملة القضايا الدولية المنخرطة في تفاصيلها الولايات المتحدة، وبالتأكيد فإن تغيير الرئيس الأمريكي جو بايدن ، وعودة الرئيس السابق دونالد ترامب سيؤديان إلى كثير من التغيرات الكبرى تجاه الدول الأوروبية، وفي الحرب الروسية الأوكرانية، ومع العلاقات مع الصين والهند والقوى الصاعدة، خاصة مع التوقع بأن الولايات المتحدة - والرئيس المقبل جمهوريا كان أو ديمقراطيا - سيتعامل من منظومة المصالح الكبرى للولايات المتحدة في العالم بصرف النظر عن التكلفة التي تدفعها السياسة الأمريكية للحفاظ على مصالحها الكبرى في العالم، والتي ستحدد أولويات ومهام السياسة الأمريكية، وفق مبدأ التكلفة / النفقة / العائد، ما قد يؤدي إلى مزيد من الصدامات في مناطق متعددة لن تكون مع الصين بسبب أزمة تايوان، أو استراتيجية الأمن الإقليمي الآسيوي التي تحتاج إلى مراجعات من الأطراف الرئيسة في النظام الجيواستراتيجي الآسيوي بأكمله.
أما في النطاقات الاستراتيجية عربيا وإقليميا، فمن غير المتوقع حدوث تغييرات كبرى؛ فالأزمة الدائرة في قطاع غزة لن تحل بالصورة التي ترسم نظريا من قبل الأطراف المعنية لاعتبارات تتعلق بالموقف السياسي، والاستراتيجي للأطراف الرئيسة والفرعية، وفي داخل بيئة الصراع الراهن فلسطينيا، ومن ثم فإن نصف الحل أو شبه الخيار قد يكون هو المرشح وبقوة في الفترة المقبلة، خاصة وأن الولايات المتحدة ستظل تتبنى خيار إسرائيل في استكمال المهام في قطاع غزة، كما تواجه السلطة الفلسطينية خيارات صعبة، ومواقف متجاذبة تحتاج لمراجعات حقيقية في ظل البحث عن حل من خلال مقاربة عودة السلطة لتؤدي دورها، ولو بصورة رمزية.
كما أن إسرائيل مرشحة لتغيير سياسي، وحزبي كبير في حال انتهاء العمليات، ومن المحتمل أن يتم تغيير الحكومة الراهنة وتوسيع نطاقها، بإدخال المعارضة من خلال اتفاق نتنياهو / يائير لابيد/ بينيي غانتس كحل قد يكون مطروحا ولو بصورة مؤقتة.
إن الرهانات الكبرى ستكون متعلقة بما سيجري في إسرائيل من مطالبات بتسريع محاكمة نتنياهو، وإخراجه من المشهد الحالي في ظل التوقع بتغييرات في السلطة الفلسطينية ومحاولة الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، البحث عن تجديد الشرعية الفلسطينية، كما ستظل التطورات الراهنة ليبيا وسودانيا محل تجاذب، فشرق ليبيا ما زال متماسكا، والغرب الليبي يبحث عن مقاربة حقيقية للشراكة المقترحة، ومع تعثر مهام المبعوث الأممي عبد الله باتيلي يبقي الحل الليبي مرتبطا بضرورة البحث عن نقطة توازن حقيقية لإجراء الانتخابات الليبية المؤجلة في ظل تبدل الخيارات والولاءات، ودخول الأطراف الدولية على خط ما يجري.
كما أن عودة قوات الدعم السريع للواجهة، واستيلاءها على مزيد من المقرات والمواقع الاستراتيجية التي كانت تتبع الجيش السوداني، وفي ظل حالة عدم الاستقرار في مؤسسات الدولة، واتجاه المواجهات إلى مرحلة جديدة ما قد ينذر مع بدايات العام بمزيد من الصدامات، واحتمال الاتجاه إلى العودة للخيار صفر مجددا، أو أن يشهد السودان مجددا مزيدا من المواجهات تتجاوز الرهانات على حدوث انقلاب جديد.
أما في النطاقات الاستراتيجية في الخليج العربي فلا تزال إيران مطالبة بمزيد من إجراءات بناء الثقة مع الدول العربية، والانتقال بمستوى العلاقات إلى مرحلة جديدة، وعدم التصميم على إدارة الملفات الإقليمية العربية من مصالح إيرانية فقط.
ومن ثم فإن الاستمرار في دعم الوكلاء الإقليميين، ودفعهم للعب دور محدد ومخطط له في أزمات الإقليم ستؤدي إلى مزيد من التوتر الإقليمي خاصة مع بدء الولايات المتحدة لتأسيس مقاربة أمنية للتعامل مع ما يجري وهو ما طرح مؤخرا في تحالف بحري جديد ما زال عليه كثير من الملاحظات، وهو ما يهدد الاستقرار في الممرات العربية سواء في خليج عمان أو باب المندب، أو البحر الأحمر، وسيدفع الدول الكبرى وليس فقط الولايات المتحدة للتدخل.
ومن ثم فإنه من المتوقع في العام الجديد 2024، أن يحمل مزيدا من التوترات، والتي قد تذهب بحالة الاستقرار الهش في المنظومة الإقليمية، وتفاعلاتها على المستوى الدولي.
ومع بدايات العام الجديد 2024، سيبقى السؤال المطروح بالفعل: هل سنشهد مزيدا من الصدامات الراهنة المكبوتة في العالم والأقاليم الكبرى، أم أننا سنكون أمام خيارات محددة ومنضبطة، ويتم التعايش مع مخاطرها الراهنة والمتوقعة، وفي ظل صراع المصالح الكبرى، والذي لن ينتهي أبدا، بل بالعكس قد يتزايد في المرحلة المقبلة خاصة وأن مزيدًا من حالة عدم الاستقرار في المنظومتين الإقليمية والدولية سيكون مطروحا.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة