مع تفجر حرب غزة، كان السؤال حول احتمال مشاركة سوريا فيها مطروحا، لكن أسئلة وجودية واجهته حول حقيقة الواقع السوري.
من النواحي السياسية والعسكرية والسيادية والاقتصادية، وحول مدى قدرة سوريا على تأمين نفسها في مواجهة الحرائق المتوهجة في محيطها، والتحديات المصيرية داخلها من ناحية، وعن إمكانياتها للحد من استخدام أراضيها ساحات قتال ومواجهة من قبل اللاعبين المنتشرين على أرضها، من الحلفاء ومن الخصوم، على حسابها من ناحية أخرى.
أفصحت استهدافات القواعد الأمريكية في سوريا والعراق من قبل جماعة تطلق على نفسها "المقاومة الإسلامية في العراق"، بالتزامن مع حرب غزة، عن جملة مؤشرات تندرج في سياق واحد يؤذن بمرحلة مقبلة من المواجهات المتقطعة والمحدودة بين الجانبين على الأرض السورية، يترافق ذلك مع سؤال واسع حول احتمال استمرارها بعد أن تحط حرب غزة أوزارها، وما يمكن أن ترتبه نتائج الحرب على الجانب السوري، خصوصا في ظل الحديث عما يسمى "وحدة الجبهات" التي تعني "وفق مروّجيها" أنه لم تعد تقتصر على جغرافية بعينها؟.
واقع سوريا المعقد والصعب يجعل مسألة تحويلها إلى ساحة استثمار ميداني أمراً وارداً؛ نظرا لخطوط التماس الجديدة التي رسمتها الأحداث فيها شرقا وفي الشمال الشرقي، حيث توجد معظم القواعد الأمريكية، وجنوبا بشكل خاص، حيث جبهة الجولان السوري المحتل وصولا إلى أقصى الجنوب الشرقي حيث قاعدة التنف الأمريكية، إلا أن السؤال الأكثر إلحاحاً هو هل تتوفر مقومات وظروف تحويل سوريا لساحة صراع، ولو محدودا، مع واشنطن ومع غيرها في المنطقة كما حدث في العراق مثلا؟
المؤشرات الدالة على أن الساحة السورية مرشحة لمثل هذا الخيار ليست قليلة، كونها اليوم تشكل بالمنظور الواقعي امتدادا لساحات الصراع بين القوى المتنافسة على النفوذ والهيمنة، وتقع في دائرة الاستقطابات الإقليمية والدولية، وهذا الطريق، أي المناوشات المحدودة، في حال تم فرضه من قبل البعض، فإنه يرشحها لأن تكون ساحة ومنطلقا لصراعات أوسع قد تشمل أجزاء من المشرق العربي أيضا.
جاءت حرب غزة لتجلي الغمامة عن أهداف اللاعبين المنخرطين في الأزمة السورية، وكشفت، في مشهد الصراع الدائر وساحات الاشتباك الموازية خياراتهم المحدودة في المنطقة برمتها ، وليس في معادلة الحرب المستعرة حاليا فحسب.
تجلى صراع المصالح والنفوذ والمكانة ناصعاً بين القوى المشتبكة في هذه الرقعة الجغرافية من الشرق الأوسط، وعكَسَ صدى الاستراتيجيات المبطّنة وارتداداتها في أكثر من ساحة معركة، وبرهن على أن ساحات المعارك ما هي إلا بوابات للاستثمار على طريق الوصول إلى الغايات الذاتية.
تبيّن أيضاً أن تمركز القوى الخارجية على الأرض السورية في جهاتها الأربع، يخفي نارا تحت رماد المصالح المكسوّة بديباجة خاصة بكل طرف، فالأمريكيون أشهروا وجودهم تحت لافتة التحالف الدولي لمحاربة إرهاب تنظيم داعش، ومنحوا رأس الحربة القتالية ضد التنظيم الإرهابي، لما يعرف بقوات سوريا الديمقراطية، وسيطروا على الجزيرة السورية شرق نهر الفرات بكل مكنوناتها من الثروات الطبيعية، من النفط إلى الغاز إلى الأراضي الزراعية إضافة إلى الثروة المائية، حيث تقع بين نهري دجلة والفرات، أما الأتراك فبرروا انخراطهم في الحرب السورية بدوافع مرتبطة -كما يدّعون- بحماية أمنهم القومي المهدد من الشمال السوري المتاخم لحدودهم الجنوبية، فسيطروا على آلاف الكيلومترات المربعة من بلدات الشمال، وشكلوا فصائل مسلحة من المعارضة السورية تأتمر بإمرتهم، في حين انتشر الإيرانيون ومعهم مليشياتهم في مساحات شاسعة على جبهات القتال وخطوط التماس كافة، انطلاقا من علاقاتهم المتجذرة مع سوريا، وما تفرضه عليهم -كما يقولون- من واجبات الدعم والإسناد، بينما حضر الروس في المشهد السوري عبر اتفاقيات رسمية مع الدولة السورية تم إيداعها رسميا وعلنا في الأمم المتحدة، فأقاموا قواعدهم الجوية والبحرية في الساحل السوري، فحققوا مبتغاهم الاستراتيجي بالوصول إلى المياه الدافئة، ووضعوا أقدامهم قرب الممرات المائية والبرية الأهم في حركة الملاحة والتجارة العالميتين.
هذه القوى المتباينة في أهدافها والمتعارضة في مصالحها أسهمت في جعل الجغرافيا السورية مسرحاً لاستعراض القوة والمناكفة والمقايضات، وبالتالي كما هو الحال في كل أزمة دولية مركبة، فقد أنتجت الأزمة السورية مأزقاً لكل طرف خارجي ساهم فيها، وحوّلت مكاسب البعض إلى أعباء، ولعل استهداف مطاري دمشق وحلب من قبل إسرائيل، والإصرار على إخراجهما من الخدمة بالتزامن مع حرب غزة، يشكل تكثيفا بليغاً للمشهد السوري الراهن بتفاصيله المتناقضة، ويؤشر إلى وقوعها على خط الرياح العاصفة من حولها، حتى إن كانت خارج اللعبة لأسباب قاهرة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة