استقبل الكوكب العام الجديد قبل أيام وهو في وضع غير مسبوق. فبعد عام من الإنكار والصدمة، وآخر من التعايش وإقناع النفس بأنها "أزمة وتعدي" أو "وباء ويزول"، يهل عام ثالث وكل من سكان الكوكب يعلم في قرارة نفسه أنه مقبل على عام مختلف وغير مسبوق.
سبق وخاضت البشرية كربة الفيروس وحلم اللقاح ونشوة الإتاحة.
لكن ها هي تخوض مجدداً دورة جديدة من دورات الكربة والنشوة، حيث متحورات الفيروس تبذل قصارى جهدها لتحتفظ باليد العليا في تقرير مصير البشرية وتحديد تفاصيل حياة كل منا اليومية.
ونحن في المقابل نخوض اللعبة ولكن بأسلحة تتعلق بالجاهزية والتعايش والمرونة ومزيد من الوعي والاهتمام بصحتنا العقلية والنفسية.
سيكون عاماً غير مسبوق، لا بسبب الصدمة أو الإنكار أو الغضب ولكن لأننا نعلم أنه عام الحفاظ على وضعية "على أهبة الاستعداد".
هذه الوضعية تحتاج إلى عناية فائقة بالصحة النفسية والعقلية بغض النظر عن إمكانات المواجهة والتكيف، سواء الفردية أو الوطنية.
مجريات الأمور على مدار الأسابيع الأخيرة وما جرى من تمدد وتوغل لمتحور "أوميكرون" سريع العدوى واسع الانتشار مع استمرار متحورات سابقة، تخبرنا أن الأمر لم يعد فقط مرونة وجاهزية.. وما يقع على رؤوسنا من تصريحات صحية أممية حالياً تستلزم عناية نفسية وعصبية مضاعفة.
فما يصدر عن منظمة الصحة العالمية مثلاً من ترجيحات بأن تتمكن المتحورات المستجدة من مقاومة التدابير الاحترازية، وكذلك القول بأن حدوث العدوى ربما لا يعني بالضرورة عدم وقوعها مجدداً وغيرها، يؤهل العام الجديد ليكون عام العناية بالصحة النفسية والعقلية للجميع.
صحتنا النفسية والعقلية في العام الجديد لا تتطلب بالضرورة زيارة لعيادات الأطباء أو الخبراء المعالجين، لكنها تستدعي وعياً مجتمعياً بأن العام الجديد يتطلب أن نعتني بأنفسنا نفسياً وعصبياً.
هذه العناية لا تعني التوقف عن العمل أو التعليم أو الترفيه أو التخطيط.. لكنها تستوجب تعاملاً هادئاً عقلانياً مع حقيقة أن التخطيط طويل المدى للتفاصيل الصغيرة لم يعد مجدياً أو منطقياً.
وهي تعني أن الإصرار على وضع خطط تتعلق بهذه التفاصيل لم ينجم عنه إلا ضغط نفسي إضافي نظراً لعدم القدرة على التفعيل في ظل أجواء التغيرات المستمرة والتي يحددها الفيروس ومتحوراته، والعلم وتطوراته.
الخبراء النفسيون يخبروننا أن التخطيط قصير المدى جيد ومناسب للعام الجديد، وأننا جميعاً اكتسبنا "مناعة القطيع" بدرجات مختلفة فيما يتعلق بالقدرة على امتصاص صدمات شح القدرة على رسم تفاصيل حياتنا على المدى الطويل وكذلك عمل قائمة قرارات العام الجديد بشكلها التقليدي.
أعجبني منطق أستاذة علم النفس في جامعة رجينا، الدكتورة كاثرين أربثنوت، التي نصحت هواة اتخاذ قرارات جديدة في مطلع كل عام جديد بأن يضعوا ثلاث نقاط رئيسية في الحسبان في أثناء كتابة القوائم: الأولى هي ما التغيرات التي طرأت على حياتي بسبب الوباء على مدار عامين مضيا وأود الاحتفاظ بها كمكتسبات طويلة المدى؟
والثانية ما الأشياء التي أتمنى استعادتها من عصر ما قبل الوباء؟
والثالثة هي في حال أردت إعادة البناء بشكل أفضل، سواء على مستوى شخصي أو على مستوى الحي الذي أقطن فيه أو على مستوى العالم، ما القواعد التي أحلم بها؟
هذه النقاط لا تجهض عادة عمل قوائم قرارات العام الجديد، لكنها تحافظ عليها، ولكن بعد إضافة عنصري الواقعية والمنطق إليها.. كما أنها تساعدنا على أن نكون أكثر رأفة بأنفسنا وأعمق اهتماماً بعوالمنا المحيطة.
ما يحيط بنا من تغيرات كبرى ليس جميعها مفجعاً أو مقلقاً.. فما اكتسبه سكان الكوكب من قدرات وملكات ومواهب للتعامل مع الأوضاع الصعبة الجديدة لا يقدر بمال.
قدراتنا على التكيف ونجاحنا في إيجاد البدائل في وقت قياسي واستمرار الحياة رغم أنف الظروف تعني أن القادم أفضل وأحسن.
لماذا؟
لأنه سيكون أكثر واقعية وقابلية للتنفيذ.
ولولا انشغال دول العالم وأنظمتها الصحية ومؤسساتها العلمية في متطلبات الوباء، وهو الانشغال الذي وصل إلى درجة الإنهاك، لطالبنا الجهات المختصة بإجراء البحوث والدراسات المعمقة حول الصحة النفسية والعصبية لسكان الأرض.
دراسة المتغيرات التي خضع لها الجميع بسبب الوباء ستضيف الكثير إلى معلوماتنا حول القدرات البشرية والإمكانات التي لم يجرِ اكتشافها بعد.
صحة الكوكب النفسية والعصبية ليست مجرد مقال عن "أضرار القلق الناجم عن كوفيد-19 على صحة المراهقين النفسية" أو "آثار الإجراءات الاحترازية على حالة المسنين العصبية" أو غيرها.. صحة الكوكب النفسية والعصبية ينبغي أن تكون شعار 2022 وخطة عمل ما يليها من سنوات.
نقلا عن البيان الإماراتية
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة