معالم الأزمة السودانية واضحة، فصراع "الجنرالين" على السلطة لن ينتهي إلا بإقصاء الآخر، ومن يحدد المنتصر هو الرصاص والقذائف والقصف الجوي، بينما تتفاقم حدة الأزمة الإنسانية، لتطفئ معها آمال الشعب السوداني، للوصول إلى الديمقراطية الموعودة!
وما قد يزيد الأزمة المشتعلة تعقيدا هو محاولة طرفي الصراع استدعاء الأطراف الخارجية، واستدراجها للتدخل بشكل سلبي، حيث تقف مع طرف على حساب طرف، ما قد يربك التوازنات الإقليمية والدولية، دون الأخذ بالاعتبار كون الأزمة شأنا داخليا سودانيا بحتا.
أحداث السودان مرتبطة بتغيرات النظام الدولي، وتداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، التي أنتجت صراعا على مناطق النفوذ الجيوسياسية في القارة الأفريقية، بين المعسكرين الشرقي والغربي، متمثلا في الصين وروسيا، ومن جانب آخر الولايات المتحدة.
تؤكد تحركات واشنطن الدبلوماسية في الأسابيع والشهور القليلة الماضية، لا سيما زيارة مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية "وليام بيرنز" إلى طرابلس وبنغازي، والتي تسبق أحداث السودان، أنها تريد إنهاء التواجد الاستراتيجي لروسيا في مناطق النفوذ بشمال أفريقيا والقرن الأفريقي، عبر إيقاف التواجد الروسي في قواعد عسكرية برية أو بحرية، بما فيها بورتسودان وموانئ البحر الأحمر، والمطلة على باب المندب، حيث تمر نحو 30% من التجارة العالمية.
تحاول إدارة بايدن استعادة نفوذها في أفريقيا، بعد تراجع النفوذ الغربي بما فيها فرنسا، ولهذا استضافت واشنطن "قمة قادة الولايات المتحدة وأفريقيا"، متزامنة مع جولات دبلوماسية لعدة دول أفريقية، وتقديم العديد من الوعود الاقتصادية والأمنية لدعم دول القارة، مقابل تخليها عن المساعدات الصينية، والعلاقة مع روسيا ومجموعة (فاغنر).
واتجهت واشنطن لتصنيف مجموعة فاغنر "منظمة إجرامية"، ما يعكس أجواء التنافس الأمريكي الروسي الصيني على مسرح المواقع الأفريقية، حيث تتواجد روسيا في مالي والساحل الأفريقي وأفريقيا الوسطى، بينما تغلغلت الصين منذ سنوات في أفريقيا، وأقامت قاعدة عسكرية في جيبوتي المجاورة للسودان، في موقع مطل على ممرات القرن الأفريقي.
وانتقل التصعيد في السودان إلى مرحلة استفزاز القوى الخارجية، عبر الاعتداءات على البعثات الدبلوماسية والأممية، وخلف إصابة سفير الاتحاد الأوروبي، ومقتل مساعد الملحق الإداري بالسفارة المصرية في الخرطوم، في هجمات غامضة تبادل بها الجيش وقوات الدعم السريع الاتهامات، ما قد يفسر وجود (طرف ثالث) يحاول تسلق المشهد السوداني من خلال إشعال فتيل الأزمة، وتشكيل تحد كبير حال أجبرت أطراف دولية وإقليمية على التدخل ميدانيا لدعم الطرفين، ما قد يضع السودان في حرب قد تمتد لسنوات، أسوة بما حصل في ليبيا وسوريا.
لقد تحدثت بإسهاب في مقالي السابق "قراءة في النزاع بين الجيش والدعم السريع"، المنشور بتاريخ 20 أبريل/نيسان 2023، عن حسابات طرفي الصراع السياسية والعسكرية، وكون الأزمة داخلية في المقام الأول، ولا يمكن إلقاء المسؤولية على الأطراف الخارجية وحسب، في دولة عانت من الانقلابات العسكرية منذ استقلالها عام 1956، ما عطل بناء أبسط مقومات الحياة والمعيشة لدولة مدنية حديثة.
ولا يمكن إعفاء التيارات الإسلامية وتحديدا تنظيم الإخوان عن المسؤولية التاريخية التي أوصلت السودان إلى وضعها الراهن، فهي من لعبت على وتر العسكر مسبقا لإزاحة خصومها السياسيين، وهي من تشق صف المكون العسكري مجددا لتعود للسلطة، ولعل أنباء اقتحام السجون وهروب قيادات إخوانية، بما فيهم الرئيس السابق "عمر البشير"، من شواهد وجود (طرف ثالث) مندس في الأزمة السودانية.
ويزداد القلق لدى السودانيين مع أنباء إجلاء الرعايا الأجانب والدبلوماسيين، ما يعني استمرار المواجهات المسلحة، وعدم تفوق طرف على حساب الآخر، ما يعكس عدم قدرة الأطراف الدولية والإقليمية حتى الساعة على احتواء الأزمة، ما تطلب تنفيذ عمليات الإجلاء الإنسانية.
بتقديري، ممكن حصر الأزمة في نطاقها الداخلي، واستغلال تأثير محور الاعتدال العربي، المتمثل في الإمارات والسعودية ومصر، بحكم علاقات الدول الثلاث مع طرفي المكون العسكري والقوى المدنية، ومحاولة تطويق الأزمة بما يخدم الأمن والاستقرار، فكلما طالت الحرب كلما أثرت تداعياتها بشكل أكبر على المنطقة العربية، ليكون الشعب السوداني هو ضحية النزاع.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة