يدين القانون الدولي هدم التراث الإنساني، وتضمن "اتفاقية لاهاي لحماية الممتلكات الثقافية في حالة النزاع المسلح" محاكمة المعتدين
إنّ الأزمة الاقتصادية لها مخرج، والأزمة السياسية لها تسوية.. لكنّ أزمة انهيار الدولة ذات الحضارة لا مخرج لها. فحين يفيقُ الناس من نتائجها.. يكون تاريخهم قد ذاب تحت أقدام الجهلاء. يصحو الناس على فُتات التاريخ ورماد المجد.
يقول بعض المفسرين إن مدينة "إرم" ذات العماد، التي لم يُخلق مثلها في البلاد.. هي مدينة الإسكندرية في مصر. ويقول آخرون هي قبيلة أو مدينة في الجزيرة العربية. وقد نقل يونس عن ابن وهب عن الزهري عن أبي صخر عن القَرظي.. أنها مدينة الإسكندرية.
لقد كانت مدينة "إرم" ذات الأعمدة المرتفعة، والأبنية الشاهقة هي بمثابة "نيويورك" ذلك العصر. ولقد انحرف سكان المدينة عن طاعة الله والإيمان به. فكان عقاب الله لهم كما جاء في سورة الفجر هو تدمير المدينة بكاملها، البشر والحجر.
ثمّة أساطير عديدة حول مدينة إرم حتى أضحت "المدينة المفقودة" موضع اهتمام رجال التاريخ. لقد مضت السنون، وجرى بناء مدن كبرى.. من بغداد إلى تمبكتو.. هي كلها طبقات حضاريّة، وآثار مذهلة.. تخطف القلوب والأبصار.
أصبحت بقايا الحضارات شاهدة على أولئك المبدعين الذين وصلوا في أزمانٍ سابقة إلى ما لا يسهل الوصول إليه اليوم.
لم يكن الحظ حليفا لتلك الأجيال الجديدة من المدن، والتي تشبه عمارة "إرم" ذات العماد. فلقد أدّت الغزوات والحروب إلى تدمير الكثير منها. ولقد كان المغول وراء واحدةٍ من أسوأ الكوارث الحضارية، وأكبر عملية هدم للتراث الإنساني.
لقد مضت السنون من جديد.. وأصبحت بقايا الجغرافيا الحضارية في العالم العربي والإسلامي نصف آمنةٍ، حتى جاء الإرهابيون.. المغول الجُدد.
تُعد مدينة تدمر واحدةً من أجمل الحضارات الباقية التي وقعت أسيرة تنظيم داعش. وبعد أن كان مسرحها الروماني العتيق رمزا للبهجة والرقي، صار المسرح خلفيةً لتنفيذ أحكام الإعدام. قام تنظيم داعش مدعوما من جماعات متطرفة عديدة، وربما من جهات دوليّة بما سماه "التطهير الثقافي". ثم شرع في عملية إبادة جماعيّة للمعالم الحضارية الرائعة واصفا إياها بالأوثان.
إنّ الأزمة الاقتصادية لها مخرج، والأزمة السياسية لها تسوية.. لكنّ أزمة انهيار الدولة ذات الحضارة لا مخرج لها. فحين يفيقُ الناس من نتائجها.. يكون تاريخهم قد ذاب تحت أقدام الجهلاء. يصحو الناس على فُتات التاريخ ورماد المجد
إن كلمة "تدمر" باللغة الآرامية - وهي اللغة السوريّة القديمة - تعني "المدينة التي لا تُقهر". وقد كانت المدينة عاصمةً لمملكة تدمر، والتي كانت إحدى ممالك الشرق المرموقة. كانت مركزا مهما لطريق الحرير بين آسيا وأوروبا، وقد ازدهرت في القرن الأول قبل الميلاد، ونافستْ روما.
كان السيد "خالد الأسعد" يعمل مديرا للآثار في تدمر. كان باحثا ومؤلفا ومؤرخا. كما كان يجيد اللغة التدمرية القديمة، وله العديد من الدراسات الرصينة.
حين دخل تنظيم داعش إلى تدمر، رفض مدير الآثار الذي تجاوز الثمانين عاما من عمره أن يغادر المدينة. وأصرّ على البقاء فيها لحماية ما يمكن حمايته من المدينة التاريخية الساحرة. اقتاد الإرهابيون عالم الآثار المسنّ إلى قلب منطقة الآثار، وجرى حشد عدد من الغوغاء والرعاع. طلب المجرمون من العالِم أن يدلّهم على مخازن الذهب "مغارة علي بابا".. فقال لهم: لا يوجد هنا ذهب. هنا آثار.. أعمدة وأقواس ومعابد ومسارح. وبعد قليلٍ من النقاش كان القرار الصادِم. حيث جرى ذبح الرجل وسط الحضارة التي كانت!
قام تنظيم داعش بقصف محيط قلعة تدمر بقذائف الهاون والصواريخ محليّة الصناع، ثم عمد إلى قوس النصر الذي يعود إلى عام 200 قبل الميلاد، وحطّم الرّواق العظيم المؤدي إليه. كما قام بتحويل متحف تدمر الوطني إلى سجن، واتخذ المسرح الروماني موقعا لتنفيذ الأحكام.
لقد بدتْ مدينة تدمر وكأنها "إرم ذات العماد" الجديدة، لكنّ تدميرها جاء بأيدي البشر ضد مؤمنين لم يرتكبوا ذنبا أو خطيئة. ثمّة "إرم" أخرى إلى الشرق.. مدينة الموصل. لقد جرى تدمير المدينة التاريخية، كما تم تحطيم متحف الموصل في مشاهد مروّعة لم يتخيلها كل من شاهدها على شاشات العالم. كما جرى تدمير مسجد النوري ومئذنته التي صمدت ثمانية قرون، وأسوة بأجدادهم الفكريين من المغول جرى حرق مكتبة الموصل، وتدمير آلاف الكتب والمخطوطات. ومعها جرى تدمير تمثال الشاعر العباسي الكبير أبوتمام.
أصبحت الموصل أطلال حضارة، كان التدمير يأتي من كل مكان ومن كل اتجاه. وفي شهر واحد من شهور الصراع ألقتْ قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة أكثر من أربعة آلاف قنبلة، وتقدّر الأمم المتحدة وزن الحطام بأكثر من (8) ملايين طن.
قام المجرمون بالاعتداء على قبر نبي الله يونس عليه السلام، كما قاموا بتخريب "مرقد الأربعين" في تكريت، والذي يضم رفات أربعين جنديا من جيش الخليفة عمر بن الخطاب. إنّ الكنيسة الخضراء في تكريت، والتي يمتد عمرها إلى ألف وثلاثمائة سنة، والتي صمدت في وجه المغول، لم تصمد في وجه المغول الجُدد.
مدينة تمبكتو في جمهورية مالي هي الأخرى "إرم" جديدة.. لكنها من دون ذنب. في عام 2012 سيطرت جماعة إرهابية أطلقت على نفسها اسم "جماعة أنصار الدين" على شمال مالي، وقد تولى إرهابي يُدعى "أبوتراب" رئاسة ديوان الحسبة، وقد رفع طلبا إلى قادته بإزالة الآثار الإسلامية في تمبكتو. وجاء القرار بالهدم.
جرى هدم مسجد يحيى، وهدم عشرة أضرحة أثرية، ومنشآت تاريخية أخرى. كانت "تمبكتو" في القرن الرابع عشر مركزا للعلم والتجارة، وصارت في القرن الحادي والعشرين مركزا للجهل والفقر.
قامت اليونسكو برفع أول دعوى أمام المحكمة الجنائية الدولية اتهمت فيها إرهابيين بتدمير إرث حضاري. حوكم "أبوتراب" في لاهاي وقال: "كنتُ ضالا، وأشعر بتأنيب ضمير وأسف شديد". لن تستفيد "تمبكتو" شيئا من سجن "أبوتراب" تسع سنوت، فقد أحال تاريخا ماجدا إلى تراب!
يدين القانون الدولي هدم التراث الإنساني، وتضمن "اتفاقية لاهاي لحماية الممتلكات الثقافية في حالة النزاع المسلح" محاكمة المعتدين.
لكن حقائق الأشياء، أن القانون الدولي لا يتجاوز الدور الأخلاقي في الإدانة، أمّا معالم الحضارة فتكون قد خرجت من التاريخ. لا يجدي الحوار كثيرا مع الخوارج الجُدد، مع كلِّ جاهل يموت، يولد جاهل جديد. وبعد كل متطرف يغادر ينشأ متطرف جديد. القوة هي الحل.
في الصراعات المعاصرة.. لحظة انهيار واحدة قد تعصف بعشرات القرون. إن أهم حقائق القرن الحادي والعشرين: المضارع تاريخ، والدولة حضارة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة