العربي يشترك مع أخيه العربي، من الخليج إلى المحيط، في تقدير النخلة، تلك الباسقة، التي تميِّزُها الكتب السماوية، حتى عن باقي الشجر.
يشتركُ العربي مع أخيه العربي، من الخليج إلى المحيط، في تقدير النخلة، تلك الباسقة التي تميِّزُها الكتب السماوية، حتى عن باقي الشجر.
لا تجد من يخلط بين الأشجار والنخيل، داخل اللغة العربية أينما اتجهت، فهي الوفية الكريمة، ظلُّا وثمراً، للمزارع والمستقر، في القرية والمدينة.
وتمر النخيل، هو أكثر ما يحرص البدوي على تقديمه للضيف، قبل كل زاد، حتى تستوي القهوة. فالتمرة هي الفطور للصحيح والسقيم، والتصبيرة حتى يستويَ الغداء على النار، وعشاء الفَطِن الهارب من السمنة، الطامع بكل الأملاح، التي يحتاجها في نهاره الطويل.
إن كانت المملكة العربية السعودية تملك فوق ترابها الطاهر أكثر من 30 مليون نخلة، فهي قبل هذا الرقم جعلت النخلةَ شعارَها الذي تعرف به في كل المحافل، دلالة على النماء.
لعل العرب جميعاً قدموا شيئاً من الوفاء لمحبوبتهم النخلة، وضموها حصرياً، زارعين نخلة باسقة، لكل محب لثقافتهم، وفي صلبها النخلة، التي ربما لا يفهم غيرهم قيمتها، فلا يرونها إلا شجرة تنتج ثمرة تدعى التمر، بينما العربي يعتبرها فاكهة كل المواسم، والغذاء الذي لا ينقطع عن بيته
ودول الخليج العربي -بالأخص- تفتخر كما المملكة، بهذه الشجرة المباركة، فقلَّ أنْ تخلوَ من رسمها عملة، أو أنْ تمرَّ بشارع رئيسي من دون أن ترى النخلة صابرة شامخة في كل الفصول. والنخلة أختُ الجمل، لكنها تغارُ من مزاين الإبل، فيرضيها محبوها بمهرجانات يسمونها باسمها؛ لتهدأ وتعود للتمايل من جديد.
وإن كان هذا واقع الحال في الجزيرة العربية فيبدو أن النخلة تسافر مع اللسان العربي أينما حل، فشموخها يتعدى شطآن الخليج، لتتمايل حتى حدود الأطلسي، وقد أخذها العرب معهم للأندلس وتسللت من هناك لأمريكا اللاتينية فالشمالية، ولا عجب، فالنخلة رفيق الإنسان العربي منذ أقدم العصور والحقب. بعض المؤرخين يقدر عمر النخيل بأربعة آلاف سنة، ولكن آخرين يسافرون بعيداً زاعمين أنها هبطت مع أبينا آدم من الجنة، ولا يلوم المحبين أو يعاتبهم في مبالغاتهم إلا عذول. الأكيد أنها بعمر أقدم الديانات فهي الشجرة أو النبتة الوحيدة التي ذكرت في كل الكتب السماوية، ولا تسأل عن قدسيتها في بلاد الرافدين، ووادي النيل، وصولاً إلى السِّند.
إثر انتشار الإسلام، سافرت النخلة أبعد وأبعد، فالأحاديث الواردة في فضل التمر لا تعد، فهي هدية المسلمين المحببة في شهر رمضان، وهل هناك أفضل من تمرة يبدأ بها صائم إفطاره؟!
لم تعد النخلة إرثاً عربيًّا خالصاً، بل مادة غذائية قل أن تفقدها في بلاد المسلمين، ولذا لم يكن مستغرباً أن يربطها المستشرق بلاتر بالدين لا بالجزيرة العربية، حين زار مصر، فقال: «يقدس المسلمون النخيل، حتى إنهم يعتقدون أنه لا ينمو في غير بلاد المسلمين، وهذا الاعتقاد يمنع الفلاح المصري من غرس نخلة بغير وضوء»!
ولأن شجرة المعرفة في سفر التكوين هي النخلة، ولأنَّ السيدَ المسيح ولد تحت ظل نخلةٍ كريمة، أظلت مريمَ العذراء، ثم تناولت ثمر الشجرة المباركة، كي يكثر حليبها ويسهل مخاضها، لذلك استعمل سعف النخلة علامة للمنتصرين في مواكبهم.
الغربي المسيحي اعتبر النخلة شجرة الحياة، وقد شاهدت وثائقيًّا مطولاً عن عراقي حمل نخلات البصرة وزرعها في بلاد العم سام، ثم استطاب المستهلكون طعم التمر العراقي في التربة الأمريكية، أقرضه البنك لتنمية عنايته بالنخيل حتى غدا بستانه مزاراً، وتمره على كل رف أمريكي.
ولأنها شجرة الحياة، فإن نشرات جمعية منتجي التمور في ولاية كاليفورنيا تضع صورة للنخلة، يقف تحتها رجل وامرأة اعتبروهما آدم وحواء. وليس كل التمر كتمر هجر، ولا كل التمر السكري كسكري القصيم، بل من النخل ما يزرع لا طمعاً في ثمره بل للاستفادة من سعفه، فخارج روما تقف خمسة آلاف نخلة نامية غير مثمرة، يباع سعفها -لا تمرها- لإقامة شعائر الأحد (في يوم أحد النخيل) من كل عام، في مقر الكنيسة البابوية!
وإن اكتفى المسيحيون بالسعف، فقد اعتبرت الديانة اليهودية التمر من الأثمار السبعة المشهورة، والتمر وعصارته، سواء الدبس أو العسل، من الأثمار التي تنقي الجسم من الأشرار، واسم تمارا للفتاة اليهودية الجميلة، مأخوذ من قوام النخلة المديد، ليس ذلك فحسب، بل مدح أنبياء بني إسرائيل وأحبارهم النخلة، وفي التلمود أن بعض الأحبار أوصى باستثمار صداق الزوجات بشراء البساتين، خاصة ما حوى منها النخيل.
وإن كانت العرب -وقد أخذ الرحالة الغربيون بالمبدأ ذاته- لا يكملون وصف مدينة أو حاضرة إلا بالحديث عن نخيلها، فإن من كرم العرب وقف البساتين والنخيل على الحجاج والمعتمرين وطلاب العلم، وابن السبيل، والمحتاجين. وكم من البساتين استعصت على البيع والشراء، لوجود علة الوقف في أصلها، ولمن استغرب ذلك فعليه مراجعة شريعة حمورابي خاصة المادتين الرابعة والستين والخامسة والستين؛ فالأولى تنص على أن «من يقطع شجرة، يغرم نصفاً من نصيبه»، والثانية عن تلقيح النخل أو إهماله «إذا أهمل البستاني ولم يلقح البستان وتسبب في تقليل الحاصل فعليه أن يؤدي إيجار البستان».
ومن نافلة القول، التذكير بأن النخلة رمز العطاء الوفير، والصبر على كل الفصول فلا جزء من أجزائها إلا وفيه فائدة لمستفيد، أقول ذلك إثر قرار منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونيسكو) إدراج «النخلة» ضمن قائمة التراث غير المادي للبشرية، لـ14 دولة عربية بينها السعودية، خلال اجتماعها الرابع عشر المنعقد في بوغوتا عاصمة كولومبيا، في الفترة الممتدة بين 9 و14 ديسمبر (كانون الأول) 2019.
ولو كنت معترضاً على جزئية في هذا قرار اليونيسكو السعيد، لاعترضت على آخر جزء في اسم القائمة فهي فعلاً رمز أصيل في تراثنا الثقافي المادي وغير المادي، ففي واحة الأحساء فقط أكثر من ثلاثة ملايين نخلة تنتج أكثر من 120 ألف طن من التمور، موزعة على 48 صنفاً. هذا في الأحساء فقط، فما بالك ببقية مناطق المملكة التي لا تخلو من أنواع نخيل مختلفة، أقول ذلك وأنا سعيد جدًّا، بهذا الإنجاز التاريخي لكل من المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة و12 دولة عربية. لعل العرب جميعاً قدموا شيئاً من الوفاء، لمحبوبتهم النخلة وضموها حصريًّا، زارعين نخلة باسقة لكل محب لثقافتهم، وفي صلبها النخلة التي ربما لا يفهم غيرهم قيمتها، فلا يرونها إلا شجرة تنتج ثمرة تدعى التمر، بينما العربي يعتبرها فاكهة كل المواسم، والغذاء الذي لا ينقطع عن بيته، والدواء في بعض الأحيان، وشراباً في عز الصيف، وحلوى عند المجيدين.
وأختم بفخر العربي بصفاته التي يقارنها بالنخلة، ففي بيت جميل للأمير بدر بن عبدالمحسن يقول في قصيدة «رسالة من بدوي»:
ومثل النخيل خلقت أنا وهامتي فوق
وما اعتدت أنا أحني قامتي إلا فصلاتي
نقلاً عن "الشرق الأوسط"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة