الرقائق الإلكترونية.. طبول حرب تدق على ضفتي الأطلسي
تحولت صناعة الرقائق الإلكترونية إلى نفط المستقبل لاقتصادات العالم، وذلك وسط صراع مكتوم لتأمين سلاسل الإمدادات العالمية من تلك الشرائح.
فالرقائق الإلكترونية أو المعروفة بأشباه الموصلات كانت التحدي الأكبر خلال جائحة كورونا لثلاثة سنوات، وتتحول الآن إلى بوق لحرب تدق طبولها على ضفتي المحيط الأطلسي.
ونقل تقرير نشرته فايننشال تايمز عن يوخن هانيبيك ، رئيس شركة انفينيون الألمانية لصناعة الرقائق، رؤيته حول مستقبل هذه الصناعة في بلاده.
وهانبيك بدأ العمل في مصنع الشركة الجديد لأشباه الموصلات الذي تبلغ تكلفته 5 مليارات يورو في مدينة درسدن بشرق ألمانيا في هذا الشهر.
و اجتذبت ألمانيا على مدى العامين الماضيين استثمارات ضخمة في قطاع الرقائق حيث تقوم شركات إنتل ووولف سبريد انفينيون ببناء مصانع جديدة كبيرة وقد تقوم أكبر شركة لتصنيع الرقائق على الإطلاق تي اي ام سي التايوانية ، بالاستثمار في ألمانيا.
لكن مصانع التصنيع الجديدة، تأتي بتكلفة مذهلة تدفع حكومة أولاف شولتز المليارات من اليورو كدعم لشركات التكنولوجيا لجذبهم إلى ألمانيا، وعلى سبيل المثال تم تقديم مليار يورو في حالة مصنع انفينيون الجديد.
وقال كليمنس فويست ، رئيس معهد أبحاث اقتصادية "آي إف أو ": تسدد الحكومة مليون يورو من المنح لكل وظيفة جديدة يتم إنشاؤها، فقط لتحسين معدل التوريد قليلاً وحتى لو نجح كل ذلك سوف تظل ألمانيا تستورد 80٪ من الرقائق بحلول عام 2030.
الرقائق.. نفط القرن الجديد
ويأتي التوجه المفاجئ بالدعم في وقت يتزايد فيه القلق في أوروبا بشأن مشاكل سلاسل التوريد الخاصة بها واعتمادها الكبير على تايوان وكوريا الجنوبية للحصول على مورد وصفه شولتز في دريسدن بأنه "نفط القرن الحادي والعشرين".
ويمثل السيناريو الذي يطارد أروقة الحكومة في برلين وبروكسل هو أن الصين قد تضم تايوان، وهي مصدر أكثر من 90٪ من الرقائق الأكثر تقدمًا في العالم، فينضب المعروض من أشباه الموصلات ، مما يجعل المصانع في جميع أنحاء العالم تواجه مشاكل كبرى.
ويقول مايكل كيلنر ، وزير الدولة في وزارة الاقتصاد الألمانية: شهد العام الماضي المشاكل التي واجهتها ألمانيا من الاعتماد في مجال الطاقة على روسيا، وكم كان ذلك قاتلاً ويعتبر الدرس المستفاد من ذلك، فيما يتعلق بإنتاج الرقائق هو علي في أوروبا أن تحظى بقدر أكبر من الاستقلالية.
وكان رد الاتحاد الأوروبي هو تخفيف قواعد المساعدة الحكومية وتعبئة مليارات اليورو في شكل منح لشركات التكنولوجيا.
ويشير المسؤولون بأنه ليس لديهم خيار لأن الولايات المتحدة تغري مصنعي الرقائق وشركات الطاقة النظيفة بمجموعة واسعة من الحوافز المالية، وإذا فشلت أوروبا في التصرف ، فإنها تخاطر بخسارة السباق على تكنولوجيا المستقبل.
دعم الدولة
ولكن مستوى دعم الدولة بدأ يصل إلى المستويات التي يجدها حتى المدافعين عن المزيد من الاستثمار في الرقائق، مبالغ به .
على سبيل المثال ، كان من المقرر أن تحصل شركة إنتل على 6.8 مليار يورو في شكل دعم حكومي لمصنعها الجديد في مدينة ماغديبورغ بشرق ألمانيا، ومع ذلك تطالب الشركة الآن بحوالي 10 مليارات يورو.
من هنا يتساءل النقاد عن سبب وجوب حصولها على الكثير من المساعدات الحكومية، خاصة عندما يكون هناك طلب محلي ضئيل للغاية على الرقائق المتطورة التي تخطط لإنتاجها في ألمانيا.
وأطلقت مطالب إنتل الجديدة للتمويل العنان لجدال ساخن بين الاقتصاديين حول ما إذا كان هذا هو أفضل استخدام لأموال دافعي الضرائب.
ويقول رينت جروب، رئيس معهد لايبنيز للأبحاث الاقتصادية: قد يؤدي هذا إلى سوء تخصيص كبير للموارد"، و ربما يكون من الأفضل شراء رقائق مدعومة رخيصة من الولايات المتحدة.
وكان قرار فتح بوابات الدعم في أوروبا استجابة مباشرة للسياسة الصناعية الجديدة النشطة التي تنتهجها الولايات المتحدة وموضوع الخلاف هو قانون الرقائق والعلوم الصادر عن إدارة جو بايدن، وهو حزمة بقيمة 280 مليار دولار تشمل 52 مليارا في التمويل لتعزيز تصنيع أشباه الموصلات المحلية في الولايات المتحدة وقانون الحد من التضخم، الذي يوفر 369 مليار دولار من الإعانات والإعفاءات الضريبية لتقنيات الطاقة النظيفة.
ووضع التشريع الاتحاد الأوروبي في مأزق: هل يجب أن يوفق بينه وبين الدعم المالي الخاص به، في خضم أزمة تكلفة المعيشة التي كانت تضع ضغطًا كبيرًا على مواطني أوروبا والمالية العامة للدول الأعضاء أم يجب أن تتجاهلهم وتتعرض لخطر هروب شركاتها إلى الولايات المتحدة؟.
واختار الاتحاد الأوروبي المسار الأول. وقد سن قانون الرقائق الخاص به، والذي يهدف إلى تعبئة 43 مليار يورو في الاستثمارات العامة والخاصة لصناعة الرقائق، وبذلك تضاعف حصة الأوروبيين في سوق أشباه الموصلات العالمي من أقل من 10٪ حاليا إلى 20٪ بحلول عام 2030 .
الدوافع الرئيسية
وكانت إحدى الدوافع الرئيسية للاتحاد الأوروبي هي الذاكرة المؤلمة للفوضى التي سببتها جائحة كوفيد، وأدت عمليات الإغلاق والفوضى التجارية إلى تعطيل المعروض من الرقائق العالمية، مما تسبب في توقف الإنتاج في صناعة السيارات.
ويقول مسؤول ألماني رفيع: "لقد خسرت المانيا ما بين ١٪ إلي ١,٥٪ من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2021 بسبب نقص أشباه الموصلات - أو حوالي 40 مليار يورو".
تايوان
ولكن شبح الصراع حول تايوان أكثر إثارة للقلق وأشارت أورسولا فون دير لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية، إلى أن أي تعطيل للتجارة بسبب التوترات حول تايوان "يمكن أن يلحق ضررًا فوريًا وخطيرًا بالقاعدة الصناعية القوية في أوروبا وسوقنا الداخلي". وإن الرد يجب أن يكون وضع إنتاجنا للرقائق على أساس توسيع قدرات الاتحاد الأوروبي. وإذا كانت الطريقة الوحيدة لتحقيق ذلك هي تقديم دعم مالي بمليارات اليورو لعمالقة التكنولوجيا ، فليكن .
ولكن هذا التحول أثبت أنه مؤلم للاقتصاديين الأكاديميين الذين ما زالوا متمسكين بمبادئ الليبرالية" الألمانية ، غير مقتنعين بتدخل الدولة في الاقتصاد وفكرة منح الإعانات أو الامتيازات الضريبية لبعض الصناعات.
ويزعم منتقدو دافع الاتحاد الأوروبي لتحقيق قدر أكبر من الاكتفاء الذاتي أنه مضلل أيضًا لأنه يغفل النقطة القائلة بأن المواد المستخدمة في إنتاج الرقائق لا تقل أهمية عن الرقائق نفسها - وغالبًا ما يكون سوقها مركّزًا تمامًا.
المواد الخام
وتعتمد تصنيع الرقائق بشكل كبير على المواد الكيميائية المستوردة لإنتاج أشباه موصلات حديثة، وتحتاج إلى حوالي 80٪ من الجدول الدوري من حيث العناصر ولذلك، حتى لو تم بالفعل بناء جميع المصانع التي تم الإعلان عنها لأوروبا وسوف نستمر في الاعتماد على المواد الكيميائية من الدول الأجنبية - لا توجد طريقة للتغلب على ذلك.
ويقول مارسيل فراتزشر ، رئيس مركز أبحاث "دي اي دبليو": هناك الكثير مما يتعين القيام به حيث تشكو الشركات بشكل روتيني من ضعف البنية التحتية الرقمية في ألمانيا ، ونقص العاملين في مجال تكنولوجيا المعلومات، والتنظيم المعقد ولذلك فن الاعتقاد بأن إعطاء الأموال للشركات يمكن أن يحل كل هذه المشاكل هو ببساطة أمر خاطئ".
ومن غير الواضح على الإطلاق أن ألمانيا والاتحاد الأوروبي يمكنهما الفوز في سباق الدعم حيث تُظهر البيانات التي جمعتها شركة افيراستريم، أن هناك استثمارات يبلغ مجموعها 122 مليار دولار في مصادر الطاقة الجديدة لصناعة الرقائق في الولايات المتحدة حتي عام ٢٠٢٥، مقارنة بـحوالي 31.5 مليار دولار فقط في الاتحاد الأوروبي.
وعلى الرغم من شدة النقاد، فقد رحبت مجموعات الأعمال في ألمانيا بشكل عام ترحيباً حاراً بنظام مساعدات الدولة الجديد الذي أعلنه الاتحاد الأوروبي، ونسبت إليه الفضل في زيادة الاستثمار في الرقائق.
أكبر الشركات
و اجتذبت ألمانيا على مدار العامين الماضيين بعضًا من أكبر شركات أشباه الموصلات في العالم وسيكون مصنع إنتل الذي تبلغ قيمته 17 مليار يورو أكبر مصنع لها في أوروبا وسينتج مصنع ووولف سبريد المخطط له بتكلفة 2.5 مليار يورو رقائق كربيد السيليكون المستخدمة في السيارات الكهربائية والخلايا الشمسية والأنظمة الهيدروليكية الصناعية ثم هناك شركة انفينيون والتي ستصنع أشباه موصلات الطاقة ومكونات الإشارة التناظرية المختلطة، المستخدمة في أنظمة الإمداد بالطاقة ومراكز البيانات.
وكلهم سيحصلون على دعم كبير و إنتل الأكبر بسبب مواجهة التكاليف المرتفعة وكذلك تخفيض الرئيس التنفيذي بات غيلسنجر توقعات أرباح إنتل بنحو الثلثين في فبراير/ شباط للحفاظ على السيولة النقدية وفي أواخر العام الماضي وأعرب بعض المسؤولين الألمان عن تعاطفهم مع مطالب الشركة.
لكن البعض الآخر أقل قبولاً. قال وزير المالية كريستيان ليندنر لصحيفة "هاندلسبلات" اليومية الألمانية في فبراير/ شباط الماضي: "لن نسمح لأنفسنا بالابتزاز والشركة الأمريكية التي حققت أرباحًا صافية قدرها 8 مليارات دولار العام الماضي ليست مستلمًا طبيعيًا لأموال دافعي الضرائب".
إنتل
ورفضت إنتل الادعاء بأنه لا توجد سوق محلية للرقائق التي ستنتجها في ألمانيا، ويقول ماركوس وينجارتنر ، المتحدث باسم الشركة في أوروبا: "هناك الكثير من التطبيقات للتكنولوجيا المتقدمة في السيارات والقيادة الذاتية، والتعرف على العقبات، ونظام الترفيه، على سبيل المثال".
ويضيف أن إنتل تخطط أيضًا لـ "برامج تسريع" لمساعدة صناعة السيارات على إدخال تقنيات متطورة في أنظمتها.