على الرغم من أن الحرب التجارية لم يشتد سعيرها، إلا أن امتداد آثار هذه الحرب ستشمل أجزاء أخرى من العالم وعلى رأسها ألمانيا.
على الرغم من أن الحرب التجارية لم يشتد سعيرها سوى بين الصين والولايات المتحدة، إلا أن امتداد آثار هذه الحرب لتشمل أجزاء أخرى من العالم وعلى رأسها ألمانيا والاتحاد الأوروبي، هو أمر متوقع، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر؛ فعلى المستوى المباشر نجد أن ألمانيا قد احتلت، خلال العام الماضي، المرتبة الرابعة في قائمة أهم الدول التي تحقق فائضا تجاريا مع الولايات المتحدة، بفائض بلغ نحو 64 مليار دولار، وقد أعلنت الإدارة الأمريكية بوضوح أنها ستسعى لخفض هذا الفائض. وعلى المستوى غير المباشر قد تتأثر الصادرات الألمانية للصين أيضا، ليس بسبب وجود مشكلات تجارية بين البلدين، ولكن نتيجة لتأثر الصادرات الصينية للولايات المتحدة، كما سنوضح لاحقا.
الصين الأكبر تجاريا وألمانيا الأكثر تأثرا
انكمش الاقتصاد الألماني، للمرة الأولى منذ عام 2015، خلال الربع الثالث من العام الحالي، وقد تحقق انكماش بنسبة 0.2% عن الربع الثاني من العام، ليبلغ معدل النمو 1.1% مقارنة بنفس الفترة من العام الماضي، ويشير البعض إلى أن السبب الأكبر وراء هذا الانخفاض هو تأثير النزاعات التجارية العالمية على الصادرات التي تعد محرك النمو التقليدي. بل إن غرف الصناعة والتجارة الألمانية توقعت، في شهر أكتوبر الماضي، انخفاض معدل النمو خلال العام الحالي إلى 1.8%، نزولا من توقعات سابقة كانت تبلغ 2.2%، كما توقعت استمرار هذا التراجع، خلال العام المقبل، ليسجل معدل النمو 1.7% فقط.
ألمانيا هي الأكثر اعتمادا على الصادرات التي تشغل نسبة كبيرة من ناتجها المحلي، وتحقق فائضا في حسابها الجاري أعلى بكثير مما تحققه الصين، وهو ما يعني أن أي تطورات سلبية في الطلب الخارجي ستنعكس بشكل أسوأ كثيرا على أداء الاقتصاد الألماني مقارنة بالاقتصاد الصيني
وتعد هذه النتائج أسوأ من النتائج التي تحققت في الصين، البلد الأول المستهدف بحرب التجارة الأمريكية، حيث انخفض معدل النمو الصيني أيضا بنسبة 0.2% في الربع الثالث، ولكن من 6.7% خلال الربع الثاني إلى 6.5% خلال الربع الثالث. ولا يشكل هذا لغزا في ضوء طبيعة كل من الاقتصادين الألماني والصيني والتطور الذي لحق بكل منهما.
فصحيح أن الصين هي الدولة الأكبر في العالم من حيث قيمة الصادرات التي بلغت نحو 2.26 تريليون دولار في العام الماضي 2017، إلا أن الصادرات لا تمثل سوى نحو 18.8% من الناتج المحلي الإجمالي، ولا تشكل إجمالي التجارة الصينية (صادرات + واردات) سوى 19.1% فقط من الناتج. وذلك بفضل تحول الصين خلال السنوات العشرة الأخيرة من النمو المعتمد على الطلب الخارجي إلى النمو المستند إلى الطلب الداخلي، ولا سيما زيادة وتيرة الاستهلاك المحلي، ومع اعتماد الصين على الواردات سواء لأغراض الاستهلاك المحلي، أو كمكون في صادراتها فهي تشغل المرتبة الثانية كأكبر بلد مستورد في العالم بقيمة بلغت 1.84 تريليون دولار في العام الماضي. وتحقق فائض في الحساب الجاري الصيني (التجارة في السلع والخدمات) بلغ 165 مليار دولار، وهو ما لا يزيد عن 1.3% فقط من الناتج المحلي الإجمالي، ويقدر البعض أن هذه النسبة ستنخفض إلى 1% فقط خلال العام الحالي.
على الناحية المقابلة، نجد أن ألمانيا تحتل ترتيب الدولة الثالثة عالميا في مجال الصادرات، بعد الصين والولايات المتحدة، حيث بلغت قيمتها في العام الماضي نحو 1.45 تريليون دولار، ولكنها تشكل نسبة كبيرة للغاية من الناتج المحلي الإجمالي تبلغ نحو 39.3%، وهي تعد أكبر بلد متقدم صناعيا يعتمد على الصادرات كقاطرة للنمو، وتبلغ نسبة إجمالي التجارة نحو 42.7% من الناتج المحلي الإجمالي. وقد شغلت ألمانيا المرتبة الثالثة كأكبر مستورد في العالم بقيمة بلغت 1.17 تريليون دولار خلال العام الماضي. وحققت فائضا في حسابها الجاري بلغ 297 مليار دولار وبنسبة تبلغ 8% من الناتج المحلي الإجمالي.
هكذا إذن؛ يمكن أن نخلص إلى أن ألمانيا هي الأكثر اعتمادا على الصادرات التي تشغل نسبة كبيرة من ناتجها المحلي وتحقق فائضا في حسابها الجاري أعلى بكثير مما تحققه الصين، وهو ما يعني أن أي تطورات سلبية في الطلب الخارجي ستنعكس بشكل أسوأ كثيرا على أداء الاقتصاد الألماني مقارنة بالاقتصاد الصيني.
دور الشركاء التجاريين
ربما يكون للتوزيع الجغرافي للتجارة الألمانية تأثيره أيضا على استمرار لعب الصادرات هذا الدور الكبير في الاقتصاد، إذ يُقدَّر أن نحو ثلثي الصادرات الألمانية (66%) تذهب لدول الاتحاد الأوروبي الأخرى، وقد احتفظت ألمانيا بقدرة تنافسية مرتفعة داخل الاتحاد، وبخاصة داخل منطقة اليورو بفضل سياسات الأجور فيها، إذ على الرغم من وجود عملة موحدة بما لا يسمح باستغلال تخفيض سعر صرف العملة كأسلوب لتعزيز القدرات التنافسية، إلا أنه كما يشير الاقتصادي الأمريكي جوزيف ستيجلتز لجأت ألمانيا منذ وقت طويل إلى ما يعرف بالتخفيض الداخلي لسعر الصرف. ويعد التخفيض الداخلي لسعر الصرف أحد أدوات السياسة الاقتصادية والاجتماعية الذي يهدف إلى استعادة التنافسية الدولية لمنتجات بلد من البلدان عن طريق خفض تكلفة العمل بصورة رئيسية، إما بخفض الأجور مباشرة، أو بخفض التكاليف غير المباشرة للعمالة.
ويعتبر التخفيض الداخلي لسعر الصرف بديلا للتخفيض الخارجي المتعارف عليه والذي يتم عبر خفض أسعار الصرف الاسمية، وكما يشير ستيجلتز فإنه بسبب اختلاف مرونة الأجور بين بلدان منطقة اليورو، كانت هناك اختلالات تجارية ما بين الشركاء التجاريين حتى داخل منطقة العملة الواحدة؛ فالبلدان التي تتميز بمرونة أكبر في الأجور والأسعار يكون لديها مزية تنافسية عن جيرانها الذين لا يتميزون بنفس الدرجة من المرونة، وبالفعل نجد أن ألمانيا قد استطاعت الحصول على موافقة عمالها على خفض الأجور والمزايا الأخرى التي يحصلون عليها منذ تسعينيات القرن الماضي، واستمرت ألمانيا في الاستفادة من ذلك نتيجه الاختلافات في الترتيبات المؤسسية والثقافية والهيكلية بينها وبين شركائها في الاتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو. إلا أن اتجاه ألمانيا، منذ شهر يناير 2015، ولأول مرة في تاريخها إلى تطبيق حد أدنى للأجور، ومراجعة هذا الحد سنويا بدءا من شهر يناير في العام الحالي، ربما يؤدي إلى هيكل أجور مختلف قد تصبح فيه بعض البلدان الأوروبية الأخرى أكثر تنافسية. حيث بلغ الحد الأدنى المقرر 8.5 يورو في الساعة، وهو ما كان يزيد على الحد الأدنى في كل من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة في عام 2015. وكانت ألمانيا حتى هذا التاريخ من بين سبعة بلدان فقط ضمن بلدان الاتحاد الأوروبي الثمانية والعشرين التي ليس بها حد أدنى للأجور. وكان القرار عند صدوره قد منح مهلة عامين لبعض القطاعات الاقتصادية حتى تبدأ في تطبيقه، ما يعني أن الآثار الكاملة للقرار ستظهر بشكل تدريجي، ربما بدءا من العام الحالي، وكانت دوائر الأعمال الألمانية قد تذمرت بالفعل عند صدور القرار من أنه قد يدفع إلى انتقال الأعمال إلى بلدان أخرى ذات معدلات أجور أقل، كما اشتكوا أيضا من أن القرار قد يجعل السلع الألمانية أقل تنافسية.
وتعد الولايات المتحدة هي ثاني أهم مُتلقٍّ للسلع الألمانية بعد بلدان الاتحاد الأوروبي، حيث صدرت ألمانيا لها، في العام الماضي، سلعا تبلغ قيمتها 125.9 مليار دولار بنسبة 8.7% من إجمالي صادراتها، وبعض أهم هذه الصادرات مستهدف من قبل الإدارة الأمريكية في إطار حربها التجارية، مثل السيارات التي تحتل رأس قائمة الصادرات.
وتأتي الصين في المرتبة الثالثة كأهم بلد توجهت لها الصادرات الألمانية في العام الماضي، حيث بلغت قيمتها 97.6 مليار دولار وبنسبة 6.8% من إجمالي هذه الصادرات، وقد لا تتأثر كثيرا بعض الصادرات الألمانية للصين كالسيارات مثلا، إلا أن الصين تعتمد على استيراد الكثير من الآلات والمعدات وبعض أجزاء ومكونات السلع التي تدخل في تصنيع السلع التي تقوم بتصديرها للخارج، ومن بينها صادراتها للولايات المتحدة؛ ومن هنا فأي انخفاض ملموس في الصادرات الصينية لأمريكا من المؤكد سيظهر انعكاسه سلبا على واردات الصين من ألمانيا.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة