"عام التحول" في ألمانيا.. غرام "الوضع الراهن" وجيش الـ3 أيام
في أواخر فبراير/شباط الماضي، وقف مستشار ألمانيا، أولاف شولتز، في قلب البرلمان، ليعلن ما بات يعرف بـ"نقطة التحول" في تاريخ البلاد.
"التحول" الذي كان مدفوعا بحرب أوكرانيا وما ارتبط بها من تحولات جيوسياسية وتهديدات أمنية غير مسبوقة، خضع للاختبار أكثر من مرة على مدار عام 2022، سواء على مستوى الخارجية أو الدفاع.
وبصفة عامة، يقصد بنقطة التحول هي تغيير كامل في السياستين الخارجية والدفاعية لألمانيا الاتحادية التي اتبعت لعقود سياسة تستند إلى القيم والنأي عن التورط في نزاعات، بالتوازي مع تراجع الاهتمام بالقوات المسلحة، والاكتفاء بنظرية الأمن الجماعي في إطار حلف شمال الأطلسي "ناتو".
ورغم هذا الإطار النظري الواسع الذي يتحدث عن تغير في السياسة ونشاط أكبر في الملفات الخارجية، وبناء جيش قوي ومسلح أو ما وصفه مسؤولون ألمان بـ"الأقوى في أوروبا"، كان أقرب للعنوان العريض خلال العام الذي يشرف على النهاية.
فالأهداف كانت أكبر من أن تنجز في عام واحد، خاصة إذا ما وضعنا في الاعتبار مشاكل أخرى شغلت الحكومة وأثقلت كاهلها وكانت أهم بالنسبة للناخب، مثل الوضع الاقتصادي وأسعار الطاقة، والتضخم.
وفي هذا التقرير، تتبع "العين الإخبارية" حصاد التحول الألماني، وهل لبى الطموحات التي علقت عليه منذ البداية، أم لا يزال حبيس البدايات الصعبة؟
"غرام الوضع الراهن"
نقطة التحول التي بدت ثورية وقت إعلانها، تجاهلت حقيقة ترسخت على مدار ما يقرب من 80 عاما، إذ كانت ألمانيا تجد صعوبات في مجاراة التحولات التاريخية والسريعة في النظام الدولي بعد نهاية الحرب العالمية الثانية.
وبات واضحا منذ ذلك التاريخ، أن السياسة الخارجية والأمنية الألمانية لا تتغير بنفس الوتيرة التي يتغير بها العالم حول ألمانيا، وهو ما أثبتته أيضا الأشهر التي أعقبت الحرب في أوكرانيا، وفق مراقبين.
وفي هذا الإطار، يقول الدبلوماسي الألماني البارز، فولفغانغ إيشينغر: "لا تزال ألمانيا تعاني من علاقة غرامية مع الوضع الراهن".
وفي عام 2014، كان إيشينغر رئيسًا لمؤتمر ميونخ للأمن عندما ألقى الرئيس الألماني آنذاك يواكيم غاوك خطابًا افتتاحيًا للمؤتمر كنداء لليقظة: "بصفتها شريكًا جيدًا، يجب أن تشارك جمهورية ألمانيا الفيدرالية في العالم في وقت مبكر، وبشكل أكثر حسماً وأكثر جوهرية".
في ذلك الوقت، كان الناتو لا يزال يصف ألمانيا بأنها "أمة مفقودة"، كما يتذكر فولفغانغ إيشينغر الذي قال. "حتى إن البعض رأى في ألمانيا ثقبًا أسودًا استراتيجيًا في قلب الحلف".
وبعد أربعة أسابيع من خطاب يواكيم جاوك في ميونيخ، زحف الجنود الروس إلى شبه جزيرة القرم. لكن الساسة كانوا في غاية البطيء، واستمر التحالف الحاكم بألمانيا في معارضة هدف الناتو في رفع ميزانية الدفاع إلى 2% من الناتج المحلي الإجمالي.
تحول بطيء
في نهاية عام 2021، كان موضوع الشؤون الخارجية والأمن والدفاع في الفصول الأخيرة في اتفاق تشكيل الائتلاف الحاكم الحالي برئاسة أولاف شولتز، وكان الحديث عن القيم والتعددية وحقوق الإنسان والسياسة الخارجية النسوية.
وكان واضحا أن التحالف الجديد يعتمد على المهارات الناعمة ووسائل الدبلوماسية الناعمة التي شكلت السياسة الخارجية الألمانية في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، دون تغيير.
لكن الاتفاق كان يحوي عنصرا مهما ومخفيا، هو تعهد بالالتزام بمشاركة ألمانيا في الردع النووي لحلف "الناتو"، والذي وصفه تقرير لمجموعة "دويتشه فونك" الإعلامية"، بـ"الضفدع الذي ابتلعه حزب الخضر على وجه الخصوص تحت ضغط من الحزب الديمقراطي الحر في مفاوضات التحالف الحاكم".
ورغم ذلك، كانت هناك خلافات حول السياسة الخارجية في بداية عمل الحكومة وبداية الحرب الأوكرانية، وخاصة حول تسليم الأسلحة لكييف، إذ تمسك حزب الخضر بالنأي عن النزاعات في الأسابيع والأشهر الأولى للحرب، رغم "نقطة التحول" التي أعلنها شولتز.
حتى مع بدء ألمانيا تسليم أسلحة لكييف، بدت الحكومة مترددة وبطيئة في التحول من الأسلحة البسيطة إلى تلك المعقدة، ومن الأنظمة السوفيتية إلى تلك الحديثة، مقارنة بباقي دول حلف "الناتو"، فيما بدا وكأن إرث السياسة القديمة يكبح الجديدة.
عقوبات متتالية
ورغم هذا التردد والبطيء، كانت العقوبات المتتالية التي تضرب في أكثر من اتجاه، ميزة واضحة للسياسة الألمانية في عصر "التحول"، إذ عاقبت برلين روسيا وإيران أكثر من مرة في 2022.
فيما يتعلق بروسيا، بدأ الأمر بتعليق مشروع "نورد ستريم 2" في خطوة جاءت ضغوط غربية متكررة، وانضمت برلين بعدها لحزم العقوبات الاقتصادية الغربية على موسكو، والتي كان آخرها وضع سقف لسعر الغاز الروسي.
وفي ملف إيران، كان الوضع مختلفا، إذ تصدرت برلين المشهد، وقادت عاصفة غربية ضد طهران إثر قمع الأخيرة احتجاجات شعبية واسعة في الأشهر الثلاثة الأولى.
وفرضت برلين حزم متكررة من العقوبات استهدفت النظام الإيراني وأجهزة الأمن ومسؤولين متورطين في قمع المتظاهرين، وانتقدت النظام الإيراني علانية، ما دفع الأخير إلى الاحتجاج أكثر من مرة.
الماضي يعرقل الحاضر
ومن الخارجية إلى الدفاع، إذ كان الوعد الأساسي لـ"نقطة التحول"، هو إعادة بناء جيش قوي ومسلح بأحدث الأنظمة في العالم، ورفع ميزانية الدفاع إلى 2% من الناتج المحلي الإجمالي، وتدشين صندوق استثمار في الدفاع بـ100 مليار يورو.
ورغم هذه المخصصات ومرور 9 أشهر، لا يزال الجيش الألماني بعيدا عن الهدف المعلن، بل إنه يعاني نقصا حادا في الأسلحة والذخيرة بما يهدد قدراته القتالية، وفق مجلة "دير شبيجل" الألمانية.
وعندما سُئلت الحكومة من البرلمان عن مخزون الذخيرة الحالي في الجيش الألماني، تمسكت بقاعدة السرية. لكن مجلة "دير شبيغل" نقلت عن مصادر أن مخزون الذخيرة يكفي لـ3 أيام في حال دخل الجيش الألماني مواجهة عسكرية.
وتنص لائحة حلف شمال الأطلسي على أن ذخيرة العضو في الحلف يجب أن تكون كافية لمدة 30 يومًا من القتال على الأقل.
وتفاقمت أزمة الذخيرة في الجيش الألماني في الأشهر الماضية، لأن أنواعًا مختلفة من الذخيرة من مخزونات الجيش قد تم تسليمها إلى أوكرانيا.
لكن كانت هناك خطوات إيجابية، إذ أعلنت الحكومة الألمانية قبل أيام، عن صفقة لشراء 35 طائرة مقاتلة من طراز F-35 من الولايات المتحدة.
هذه الصفقة تتوج سعي برلين المستمر منذ سنوات لاستبدال جزء من أسطول مقاتلات تورنادو المتقادمة والمكلفة بتنفيذ عقيدة "الناتو" في مشاركة الأسلحة النووية.
كما أن رئيس الوزراء الإسرائيلي يائير لابيد، أعلن في سبتمبر/أيلول الماضي، أن ألمانيا تتفاوض مع إسرائيل لشراء منظومة الدفاع الجوي "أرو 3″، كخطوة من برلين لتعزيز قواتها المسلحة.
وقال لابيد خلال مؤتمر صحفي مع نظيره الألماني أولاف شولتز إن "إسرائيل سوف تلعب دورا في بناء قوة دفاع ألمانية جديدة في المقام الأول في مجال الدفاع الجوي".
ووفق مراقبين، فإن التحول في السياسة الدفاعية الألمانية يسير خطوة للأمام وخطوة للخلف منذ إعلانه، وسط غياب التحركات المطلوبة على مستوى هيكل القيادة وتدريبات الجيش وتوفير الذخيرة.