وإن كنت في منتصف الأربعين، جاورت الكبير، سمير عطا الله، على صفحات «الشرق الأوسط»، فإنني معترف بأن فضل مثله على مثلي قديم.
كيف كان عمُّنا أبو الطيب يقول:
أصادقُ نفس المرء من قبل جسمه
وأعرفُها من فعله والتكلمِ
وإنْ كنت في منتصف الأربعين، جاورت الكبير، سمير عطا الله، على صفحات «الشرق الأوسط»، فإنني معترف بأن فضل مثله على مثلي قديم، فأنا من جيل -ولا أريد أن أُشعر أستاذنا بفارق العمر- قد كبر على أن الصحيفة تُقرأ من الصفحة الأخيرة لا الأولى.
إن كانت شقة سمير، على الضفة الأخرى من النهر، أقصد «الشرق الأوسط»، بطبيعة الحال، وأن القراءة تستحب أن تكون من الصفحة الأولى للأخيرة. إن كان مجلس سمير عطا الله، في مدخل الصحيفة، كما كان وما زال الحال مع «النهار» اللبنانية. ولا أدري من أين تسربت فكرة -شقة سمير عطا الله- إلى ذهني، فالرجل المعروف بعدم انقطاعه عن الكتابة أبداً، وبأنه الوحيد القادر على أن يحافظ على جودة المقال اليومي منذ نصف قرن -أياً كان محله على الكرة الأرضية- بقي وما زال في ذهني ساكناً في - قد تكون في باريس أو مونتريال أو ببيروت- مطلة على النهر، تقع دائماً في الطابق الثامن، وقد أبرر فكرة الطابق الثامن؛ لأنه لا يذكر غسان تويني، إلا ويذكر مكتبه في الطابق التاسع، والطوابق الثمانية الأخرى في مبنى «النهار».
لنقل إني مارست الاختزال، كي أمسك بخيط واحد ثابت، كلما ذُكر اسم سمير عطا الله، أو مر طيفه أمامي.
تحديد المكان في خيالي البسيط، هو المدخل الأول لكل المعطيات التالية، صحيحة أم خاطئة. هذه الشقة مليئة بالكتب، بكل اللغات، على الرفوف العليا الشعر والفلسفة، وكل ما كتبه الرحالة، والمستشرقون، على أن ما كتبه سمير عن أفريقيا، يستحق أن يُدرّس للساسة قبل إرسالهم لأفريقيا، وما كتبه عن مشاهداته، في الجزيرة العربية، وملاحظاته، وتأريخه للمدن والملوك والوجهاء والمناسبات يصلح أن يكون أرشيفاً مستقلاً -يدرس أيضاً- في كليات الصحافة العالمية.
أما علاقته بالمعاجم، وعلاقتها به، فلا أحصي عدد المفردات التي أدخلها الأستاذ لمقالات غيره. لنقل إن القليل من الجغرافيا، والكثير من التاريخ، كما هي عادته في التواضع، عنى لنا الكثير في بداياتنا الصحفية وما زال.
ولا أعجب من رجل، يعزو كل هذا الإرث الفاخر، لكثير من الصدف الجيدة، فـ«أيار 68»، كان تحت شقته، ولم يذهب هو لتغطية الحدث، والملك فيصل بن عبد العزيز، يمسك بيده ويقول له: «لا تغادر السعودية غداً، فهنالك زيارة مهمة ستحصل»، ليصبح أول صحفي يخبر القراء عن زيارة جمال عبد الناصر، المفاجئة إلى السعودية، إبان الخلاف السعودي-المصري الشهير في 1965.
كم كنا سنخسر، لولا جرأة سمير وإقدامه، الذي ارتحل خلف ديغول، من باريس لأيرلندا؟ ومن يشكك في أن سمير، لو لم يكن واثقاً بإيمان غسان تويني به، لكان مفصولاً من «النهار» يومها؟!
وليس سراً، أن الكتابة اليومية، مرهقة حدَّ الإنهاك، مهما أخلص الإنسان للصحافة، ولا يجعلها أصعب، إلا مراقبة سمير -الاسم والصفة- وهو يتجلَّى يومياً، دون أن يكرر، أو يعيد. ولعلِّي سائل الأستاذ يوماً، عن قدرته العجيبة على ملاحظة كل شيء، والتعليق على ما يكتبه الآخرون... الكثيرون ومنهم تلميذه كاتب هذه السطور!
نقلق عندما نتخيل، أن صاحب الشقة المطلة على النهر في الطابق الثامن، يقتطع جزءاً من وقته الثمين، ليكتب إلينا أو عنَّا، وإن كانت آخر حروف الأستاذ في تأبيني للصادق النيهوم، منتهية باستحسانه لبقائي وفياً للصحافة، فإني أريد أن أقول للأستاذ، ومن خلال هذا المنبر، كلما تأخرتُ في تسليم مقال لي، تذكرتُ كلامك، وأنت من جيلٍ كان يُبرق ويذهب لمكتب البريد، وأحياناً يملي مقاله بالهاتف، أو يأخذ "تاكسي" للمطار، كي يجد قاضياً أو سفيراً متجهاً لبيروت فيحمله المقال باتجاه «النهار»، فأقول لنفسي: وأنت تستثقل إرسال مقالك بالبريد الإلكتروني؟!
وليت المحبة، تكون من القلب للقلب فقط، إذن لكان الأمر أهون، لكن أن تحب عقل رجل في كل صباح، وتطرب لحرفه، أياً كان الموضوع، ومهما كان اتجاهه، فذاك من العجيب، الذي لا يحظى به غير السمير، وهو عطاء من الله لنا.
كيف كان يقول أبو الطيب مرة أخرى:
يُحبُّ العاقلون على التصافي
وحُبُّ الجاهلين على الوسامِ
وإن كان في الصحافة مدرستان: مدرسة السبق الصحفي، ومدرسة التقرير المتميز، فقد فرحت جداً، وأنا أشاهد سمير منحازاً للتقرير الجيد، وزاوية التقاط الفكرة، مفضلاً إياها على السبق بحد ذاته.
أصدقكم، أني فكَّرتُ، حينها، فقلت: ربما لأن الأستاذ شبع صغيراً من السبق الصحفي، فآثر الصعب، والصعب هو الجلوس والقراءة مراراً، حتى تتضح صورة جديدة، لم تكن موجودة، أو لم ينتبه لها أحد.
ثم عدت لنفسي، وقلت: لو أن لكل صحفي، نصف حظ سمير، لما كانت هناك حاجة لما يسمى بالسبق الصحافي! والحقيقة أن من يمر من أمامه السبق، كثير، فلا يسبق بل يأتي متأخراً. والحظ لا يصنع اسماً لامعاً لسنوات، فكيف بعقود؟!
كم كنا سنخسر، لولا جرأة سمير وإقدامه، الذي ارتحل خلف ديغول، من باريس لأيرلندا؟ ومن يشكك في أن سمير، لو لم يكن واثقاً بإيمان غسان تويني به، لكان مفصولاً من «النهار» يومها؟!
غسان ذاته، هو الذي سيقترح على سمير، بعد لقائه الشهير بـأنديرا غاندي: أن يبطل السهر، ويركز في المقابلات!
لكن من يشفي أهل الصحافة من عشق الليل وسكونه... أو حتى صخبه؟!
يقول هذا الشاهد المهيب على العصر، عن الملك سلمان، جملة لا تنسى، يحتفظ بهذه الجملة منذ 50 عاماً: «منذ يفاعه، والملك سلمان رجل دولة».
حتى السيد «غوغل» بعظمته، مستغرب من استعمال وصف «يفاعه»، ربما لأن سمير استعملها مرة واحدة، ولم تصبح معتادة بعد عند «جوجل»!
رحم الله الصادق النيهوم، الذي كان سبباً في مرور حرفي على عين صاحب الشقة، المطلة على النهر، في الطابق الثامن. وشكراً لعميد أجمل الشبابيك الصحافية على ظهر «الشرق الأوسط»، وصاحب المجلس، الممتد من الجغرافيا إلى التاريخ في «النهار»، أسبوعياً.
لا يجاري مثلك إلا أبو الطيب:
وقد حملتني شكراً طويلاً
ثقيلاً لا أطيق به حراكا
نقلاً عن "الشرق الأوسط"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة