نيوزيلندا قدمت درسا للعالم في كيفية مواجهة الإرهاب من جانب، وكيفية معالجة آثاره من جانب آخر.
كان أستاذي الدكتور عز الدين فودة أستاذ كرسي القانون الدولي بجامعة القاهرة- رحمه الله- يعلق على جميع الأحداث؛ كبيرها وصغيرها؛ بعبارة واحدة: "إن الله لا يفعل إلا خيراً"، علمنا- رحمة الله عليه- كيف ننظر في جميع الأحداث مهما كانت قسوتها وبشاعتها؛ أنها تأتي في سياق تاريخي كلي أكبر من الحاضر الذي نعيشه، والماضي الذي نعرفه، والمستقبل الذي نحلم به، إنها تأتي ضمن منظومة كونية تشتمل كل هذه الأزمنة الثلاثة معاً.
والحادث الإرهابي في مسجدي نيوزيلندا ليس خارجاً عن هذه الرؤية الكلية، فلابد من النظر إليه ضمن هذه الرؤية الشمولية التي تجعل منه نقطة تحول كبرى في التاريخ البشري المعاصر، فما حدث من قتل للمصلين في المسجدين أمر مؤلم أشد ما يكون الألم. ولكن ما جاء بعد هذا الحادث قدم صورة ناصعة للإنسانية في أجمل صورها ومعانيها الراقية، وعلم العالم درساً غير مسبوق في كيفية تحقيق قيم التسامح، واحترام التنوع، وتقدير قيمة الإنسان، ومداواة جراح الإرهاب بطريقة لا تنتج إرهاباً مضاداً. وفي نفس الوقت أظهرت هذه الحادثة مدى قبح، وقماءة المتاجرين بدماء الأبرياء لتحقيق مكاسب سياسية داخلية أو خارجية.
الدرس النيوزيلندي والتعامل الإماراتي معه استطاعا أن يحولا ذلك الحادث الإرهابي البشع الذي استهدف مصلين أبرياء في دار عبادة من كارثة إنسانية إلى أمل إنساني في مستقبل تسوده قيم الاحترام لكرامة الإنسان، والتقدير لمعتقداته، والقبول باختلافاته وتنوعاته والعيش المشترك معه والتسامح الكامل مع كل ذلك.
شاءت الأقدار أن تأتي من أقصى المدينة، أو من أقصى العالم امرأة تعلم العالم كيف يكون الإنسان إنساناً يقدر قيمة الإنسان، ويحفظ كرامة الإنسان، ويحقق العدالة بصورها القانونية والسياسية والإنسانية، فكان موقف رئيسة وزراء نيوزيلندا غير مسبوق في التعامل مع حادث إرهابي يستبطن دوافع عنصرية قومية من جانب، وتطرف ديني من جانب آخر. فأظهرت هي وحكومتها وشعبها أقصى درجات الاحترام لكل الرموز التي تم قتل الأبرياء على يد الإرهابي بسببها، فتم تعظيم كل رموز الإسلام في أعلى مؤسسات الدولة، وكان القرآن والآذان في البرلمان والمحطات التلفزيونية الرسمية، وكان الحجاب شعاراً رفعته نساء نيوزيلندا تضامناً واحتراماً، وكانت الجنازة الرسمية، وزيارة المساجد من قبل المسؤولين والمواطنين. وفي نفس الوقت كان تجريد المجرم الإرهابي من اسمه، بعدم الإشارة إليه لإجهاض دوافعه في حب الظهور وادعاء البطولة القومية أو الدينية.
لقد قدمت نيوزيلندا درسا للعالم في كيفية مواجهة الإرهاب من جانب، وكيفية معالجة آثاره من جانب آخر، وذلك من خلال تعظيم الجوانب الإيجابية التي تعطي الضحية حقه وكرامته، وتحرم المجرم مما أراد تحقيقه من مكاسب سياسية أو دينية من فعلته الشنعاء، منهج جديد يركز على جوانب الخير ويعظمها، ويضعف جوانب الشر ويحقر من شأنها، ذلك هو منهج الخيرية الكونية، أن يكون الإنسان داعية للخير مبشراً به، وليس داعية شرور، وغراب بين يتمتع بالنوح على الخرائب.
وهنا يثور سؤال جوهري...كيف قرأ العالم الإسلامي الدرس النيوزيلندي؟ الواقع يقول لنا إن العالم الإسلامي انقسم في قرأته لهذا الدرس القادم من أقصى العالم إلى ثلاث اتجاهات هي:
الاتجاه الأول سارت فيه غالبية الدول الإسلامية، وهو الاستنكار المعتاد لحادث قام به متطرف ديني غير مسلم ضد مسلمين في مسجد، ثم العزاء للمسلمين في نيوزيلندا، وعدم الالتفات لكل ما قامت به الحكومة النيوزيلندية، وكأنه لم يكن.
الاتجاه الثاني سارت فيه تركيا ومن يمشي في ركابها من جماعة الإخوان وقطر، وللأسف قدم هذا الاتجاه كل ما يناقض الدرس النيوزيلندي، فكان رد الفعل التركي والإخواني من ورائه في غاية البشاعة، والتوحش في المتاجرة بدماء الضحايا؛ إلى درجة أن الرئيس التركي استمر يعرض التسجيل المرئي لحادثة القتل البشعة في سرادقات الدعاية الانتخابية لحزبه، وهو بذلك يسهم بكل ما أوتي من قوة في خلق إرهاب مضاد، ويدفع الشباب المتحمس لحمل أكبر قدر من الكراهية لغير المسلمين خصوصاً المسيحيين الأوربيين؛ الذين ينتمي إليهم المجرم الذي نفذ مذبحة المسجدين، وظل الرئيس التركي وأتباعه ينفخون في كير الكراهية، ويشعلون نار الحقد والغضب، ويدفعون الشباب للانتقام بكل بلادة وتحجر مشاعر؛ من أجل تحقيق مكاسب انتخابية داخلية، أو تسجيل موقف على الدول الأوروبية وأستراليا.
الاتجاه الثالث مثلته دولة الإمارات العربية المتحدة التي كانت الدولة الوحيدة التي تتحرك على نفس الأرضية القيمية للحكومة النيوزيلندية، وتركز بصورة أساسية على تعظيم البعد الإنساني للحادثة، ونقلها من كونها مأساة تنتج مآسي كما يحدث في كل الحالات التي يتواجه فيها مسلمون وغير مسلمين في أعمال إرهابية، إلى جعلها لحظة للقاء إنساني على قاعدة قيم التسامح والاحترام المتبادل، والتعايش الفعال، وحكم القانون، وتعظيم القيم الإنسانية العامة. فما كان من الإمارات إلا أن أرسلت وفدا رفيع المستوى برئاسة واحد من أهم كوادر الدولة في مكافحة الإرهاب، وترسيخ قيم التعايش والتسامح معالي الدكتور علي راشد النعيمي، وكان هو الوفد الوحيد الذي لم يقتصر على تقديم العزاء للمسلمين، وإنما بزيارة جيران المسجد، والتقى برئيسة الوزراء، وبعض الوزراء والقيادات المحلية لتقديم رسالة واضحة وهي: إننا بصفتنا مسلمين ننظر للحادثة كجريمة في حق الشعب النيوزيلندي والدولة النيوزيلندية، وأن هذا الحداث ليس حادثا طائفيا يتعلق فقط بالمسلمين، وأننا نثمن غاليا ما قامت به رئيسة الوزراء وحكومتها وشعبها من تقدير وإجلال للشعائر والرموز الإسلامية، وللدعم الإنساني والمعنوي لأسر الضحايا، وأننا نؤمن أن مواجهة الإرهاب يجب أن تكون من خلال مؤسسات الدولة والمجتمع، وأن المواجهة يجب أن تتم من الجميع ضد كل صور الإرهاب بغض النظر عن خلفياته. ثم قامت الإمارات بتزيين برج خليفة؛ أطول برج في العالم بصورة رئيسة وزراء نيوزيلندا وهي ترتدي الحجاب، وتحتضن سيدة مسلمة.
الدرس النيوزيلندي والتعامل الإماراتي معه استطاعا أن يحولا ذلك الحادث الإرهابي البشع الذي استهدف مصلين أبرياء في دار عبادة من كارثة إنسانية، إلى أمل إنساني في مستقبل تسوده قيم الاحترام لكرامة الإنسان، والتقدير لمعتقداته، والقبول باختلافاته وتنوعاته والعيش المشترك معه والتسامح الكامل مع كل ذلك.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة