ما أحدثته جائحة كورونا في أوروبا خلال الشهرين الماضيين سيضع علامة استفهام كبرى حول مشروع الحداثة الغربية
غاية هذا المقال تحريك العقول، وإثارة السؤال، وليس تقرير حقائق، أو ادعاء الوصول إلى إجابات نهائية عن أي سؤال، أو الخروج بخلاصات ونتائج. وبعيداً عن الخوض في الجدل الفلسفي حول الحداثة، وما بعدها وما قبلها، لأن هذه المساحة لا تسمح بهذا الجدل. الحقيقة الوحيدة أن عالم اليوم يواجه ظاهرة جديدة، لم يسبق أن مر بها في تاريخه من أكثر من ألفي عام، فقد ارتبطت الأوبئة والأمراض التي تجتاح الشعوب، وتعبر الحدود، منذ أول وباء معروف في الدولة الرومانية في عهد ماركوس أوريليوس الذي حكم روما حتى 180 قبل الميلاد إلى آخر طاعون عرفته البشرية في القرن العشرين - ارتبطت جميعها بثلاث ظواهر متزامنة مترابطة هي: النقص الشديد في المحاصيل الزراعية الغذائية، والظلم السياسي والاجتماعي، وفشل الدولة في أداء أدوارها في حفظ الأمن وتحقيق عدالة التوزيع.
أما أزمة اليوم المتمثلة في انتشار فيروس "كورونا" المستجد، فيبدو أنها لا تعود لأي من هذه الأسباب، وإنما جوهرها يتعلق بموقع الإنسان في المنظومة السياسية والاقتصادية والتكنولوجية لعالم اليوم.
ما أحدثته جائحة كورونا في أوروبا خلال الشهرين الماضيين سيضع علامة استفهام كبرى حول مشروع الحداثة الغربية برمته، ويطرح سؤالا مهما يحتاج إلى نقاش عميق: ما هدف مشروع الحداثة إذا كانت لا تحقق الحد الأدنى من حماية الإنسان في مواجهة تحديات الطبيعة الطارئة؟
التحدي الأول الذي تطرحه أزمة "كورونا" موجه إلى مشروع الحداثة الغربية، الذي تعلمنا من رواده أن جوهر الحداثة، ومحور ارتكازها هو الإنسان، حوله تدور الأشياء، وعليه مدار الكون، وهو الغاية العليا التي لا تعلوها غاية، حتى إن الإله في عمق فلسفة الحداثة قد أفسح مكانه للإنسان، وصار الإنسان هو مركز الكون وليس الإله.
قرنان من الزمان والحوار الفكري يدور حول هذه القضايا، حول مركزية الإنسان وهامشية كل ما عداه حتى الإله. وفي النهاية يتضح أن الإنسان آخر اهتمامات الحداثة الأوروبية، التي فشلت في الحفاظ على حياته أمام فيروس. فلم تكن كل منجزات الحداثة متمحورة حول الإنسان كما كانت تدعي، وإنما حول أشياء أخرى نحتاج أن نكتشفها ونتعرف عليها، لم يكن الإنسان في الحسبان، بل الثروة والربح والسلطة والقوة النفوذ والآلة.. إلخ. لذلك عندما احتاج الإنسان إلى سرير في مستشفى، أو علاج، أو وقاية قيل له توقع الموت، وودع أحبابك، وأصبح الإنسان رقما ضمن أرقام المرضى أو الموتى، وكان الفشل الأكبر في حماية الإنسان، والحفاظ على حياة الإنسان في الدول التي قادت مشروع الحداثة الغربية، وكانت الدول التي لم تعتبر ضمن مشروع الحداثة أصلا؛ هي الأكثر اهتماما بالإنسان وحرصاً عليه، واندفاعا لإنقاذه مثل الصين.
ما أحدثته جائحة كورونا في أوروبا خلال الشهرين الماضيين سيضع علامة استفهام كبرى حول مشروع الحداثة الغربية برمته، ويطرح سؤالا مهما يحتاج إلى نقاش عميق: ما هدف مشروع الحداثة إذا كانت لا تحقق الحد الأدنى من حماية الإنسان في مواجهة تحديات الطبيعة الطارئة؟ ما قيمة الحداثة إذا كانت تقود إلى بؤس الإنسان؟
التحدي الثاني الذي تثيره أزمة كورونا موجه إلى مشروع العولمة بكل أبعاده وجوانبه، فقد وعدتنا العولمة منذ أكثر من عقدين من الزمان بأن العالم صار أسرة واحدة، وقرية واحدة، وأن ثورة الاتصالات والمواصلات قد خلقت جنة للإنسان على الأرض، وأن البشرية تعيش في عصر الاعتماد المتبادل بكل معانيه، وأن حاجات الإنسان جميعها تتحقق من خلال التبادل الحر بين الدول والمجتمعات، وأن سرعة هذا التبادل أكثر من سرعة جنود سليمان عليه السلام من الطير والإنس والجن.. إلخ. ثم جاءت أزمة "كورونا" لتقول لنا إن العولمة ناجحة جدا في انتشار الفيروس، وليس في سرعة وصول وسائل الحماية والإنقاذ، وإنها ناجحة جدا في انتشار المعلومة والإشاعة، وليس الخبرة العلمية، والابتكار الطبي، فقد تحركت الدول في كل ما يتعلق بوسائل إنقاذ البشرية من وباء قد يقضي عليها من منطلقات لا علاقة لها بالعولمة وقيمها وما وعدت به.. هنا ظهرت المصالح الضيقة، والنزاعات، والتنافس والتشفي، والانتقام، ومحاولة الإضرار بالخصوم، والسخرية من الأعراق والأجناس، فقد تم التعامل مع الفيروس قبل انتشاره على أنه أزمة تخص الصين، وهي تستحقها، وحتى بعد انتشاره لم نشهد عملا جماعيا واحدا يثبت أن وعود العولمة كانت لها نصيب من المصداقية.
وهنا يثور السؤال: هل العولمة حققت ما وعدت به؟ وهل البشرية أصبحت بعد نجاح مشروع العولمة في وضع أكثر أمانا من ذي قبل؟ وهل المجتمعات البشرية دخلت بصورة حقيقية في العولمة؟ أم أنها غرقت في سطحيات العولمة، وتفاهات أمورها مثل وسائل التواصل الاجتماعي، والاستهلاك الترفي، والتقليد الأعمى، والتخلي عن الهويات والقيم واللغات لصالح لغة واحدة وهوية واحدة ونمط حياة واحد؟.. هل كانت العولمة إضافة حقيقية لتطور الإنسان؟ أم أنها مشروع ما زال في طور التشكل ويحتاج إلى مراجعات وتصحيح حتى يحقق وعوده والأحلام التي ارتبطت به؟
إن تحدي "كورونا" للبشرية سيكون أعمق مما يتصور الكثيرون، فلن يكون هذا الفيروس الضئيل مجرد مرض عابر، بل سيكون مثل طوفان نوح عليه السلام، سيخلق عالما جديدا في كل أبعاده وتصوراته وأنماط حياته، هل سيعود الإنسان إلى نمط جديد من البداوة والعزلة؟ وهل ستطغى النزعات المحلية والوطنية على التوجهات العالمية؟ وهل سيعاد تشكيل الدولة وأدوارها؟
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة