منتدى دافوس.. تساؤلات صعبة تنتظر أجوبة "عالم منقسم"
تبدو الإطلالات الخلابة لجبال الألب في بلدة دافوس السويسرية، على النقيض من واقع عالمي مثقل بالأزمات.
ويكرس هذا التناقض أجواء الغموض والقلق عشية انطلاق فعاليات منتدى دافوس، فيما تدفق عدد قياسي من رجال الأعمال وقادة الحكومات على المنتجع السويسري الشهير لحضور المناقشات التي تستمر خمسة أيام، بعد عودته إلى مقر انعقاده الشتوي عقب فترة انقطاع 3 سنوات بفعل الإجراءات الاحترازية التي وباء كوفيد19 العالمي.
اجتماعات تأتي فيما تتزايد المخاوف بشأن قضايا عديدة، على رأسها الحرب الروسية في أوكرانيا، والركود العالمي الذي يلوح في الأفق، وارتفاع تكلفة المعيشة، إلى جانب التحفظات على جهود مكافحة تغير المناخ، والتي تعكس وجود مؤشرات، وإن كانت طفيفة، على تراجعها.
ويجد المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس بسويسرا نفسه هذا العام مبحرا في مياه مضطربة، فالاعتقاد الذي ساد لسنوات بأن المزيد من التجارة من شأنه جلب المزيد من الحرية، يواجه اليوم وضعا دوليا منقسما فيما أعمدة دخان الأزمات تتصاعد في أوروبا، وتختمر في آسيا.
واقع ترجمه شعار دافوس هذا العام؛ "التعاون في عالم منقسم"، حيث بدأ التشظي باجتياح غير متوقع من وباء كوفيد-19، ما أدى إلى فرض تدابير الإغلاق وتوقف سلاسل التوريد. لذلك، كان من المأمول النظر لانعقاد المنتدى الاقتصادي العالمي لعام 2023 - في موقعه الشتوي المعتاد كإشارة إلى العودة إلى الحياة الطبيعية، لكن يبدو ان هذا الأمر بعيد المنال في الوقت الراهن.
وبغض النظر عن إمكانية أن يشهد العالم مرحلة جديدة من الجائحة، فقد ترك كوفيد 19 بصماته على طريقة تفكير الحكومات والشركات في العولمة، وتهاوى المعتقد القائل بإمكانية شحن البضائع والسلع بسهولة إلى جميع أنحاء العالم.
السيناريوهات الأخرى - التي كانت تعتبر في يوم من الأيام أحداثًا لا يمكن تصورها – باتت أكثر حدة. أصبحت أحداث الطقس المتطرفة أكثر تواترًا، مما يثير تساؤلات حول الأمن الغذائي والسفر. وتهدد الهجمات الإلكترونية، التي تشنها الدول أو المجرمون، البنية التحتية التي يعتمد عليها الاقتصاد الحديث.
وبدافع من الحكومات، يتعين على الشركات تغيير طرقها. فليس من الحكمة الاعتماد على سلاسل التوريد المعقدة المعرضة للأمراض أو الحروب أو حالات الطوارئ الأخرى.
وبات يتعين على شركات مثل آبل - التي تفاخرت بمنتجاتها "المصممة في كاليفورنيا، والمجمعة في الصين" - تنويع الإنتاج، فأصبحت آبل تنتج بشكل متزايد في الهند وفيتنام.
كانت الجائحة سببا في محاولة بعض الشركات الغربية خفض اعتمادها على الصين، لكن هذه الجهود تسارعت بعد ذلك بسبب الوعي المتزايد بالمخاطر الجيوسياسية.
كما أظهر الغزو الروسي لأوكرانيا العام الماضي أن ما لا يمكن تصوره يمكن أن يحدث. فأضخم حرب في أوروبا منذ عام 1945 تدور رحاها على بعد أقل من ألف ميل من فنادق دافوس الفخمة.
مع استمرار الصراع في أوكرانيا، لا يزال خطر التصعيد كبيرا. الحرب النووية هي التطور المحتمل الأكثر إثارة للرعب - وهو ما يثير قلق البيت الأبيض منذ اندلاع القتال في فبراير/ شباط الماضي. وحتى وإن لم تستخدم الأسلحة النووية، فإن خطر اتساع نطاق الصراع لا يزال قائما حيث يرسل الناتو أسلحة متطورة إلى أوكرانيا وتزود إيران روسيا بطائرات بدون طيار عسكرية.
وأظهر الصراع كيف يمكن للحرب أن تقطع الروابط الاقتصادية التي بنيت عليها العولمة. فيعمل الاتحاد الأوروبي على خفض واردات الطاقة الروسية بشكل كبير - مما تؤدي إلى زيادة التضخم في أوروبا ويهدد بجعل بعض الصناعات غير قادرة على المنافسة.
وتعتبر روسيا وأوكرانيا أيضًا من الموردين المهمين للحبوب إلى الأسواق العالمية. وقد أدت حربهم إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية وهددت بدفع الملايين من الناس إلى الجوع.
وبينما يقوم السياسيون والصناعيون بمسح الأفق بحثًا عن التهديد الجيوسياسي الكبير القادم، تظهر تايوان في بؤرة الاهتمام، حيث تنتج 90% من أشباه الموصلات الأكثر تقدمًا في العالم، ويغدو أي تطور عسكري هناك مصدر تهديد حقيقي بقدر النتائج المدمرة على الاقتصاد العالمي.
حتى التوترات الجيوسياسية التي لم تصل إلى حد الحرب فقد ألقت بظلالها على التجارة الدولية. وأدى الموقف الأمريكي الحذر المتزايد تجاه الصين إلى قيام إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن بتقييد صادرات التكنولوجيا الحساسة هناك بحدة. ولن يؤثر هذا على الشركات الأمريكية فحسب، بل يؤثر أيضًا على عمالقة التكنولوجيا الأجنبية، مثل سامسونغ في كوريا الجنوبية، الذين يستخدمون التكنولوجيا الأمريكية.
ويجب على القادة السياسيين، وخاصة في الغرب، أن يشعروا بالقلق تجاه الضغط الداخلي الذي يمثله الشعبويون. فقد جعل العديد من هؤلاء من المنتدى الاقتصادي العالمي رمزًا لعدم المساواة ورأسمالية دولية لا جذور لها.
في السنوات الأخيرة، جذبت دافوس حفيظة معارضي اللقاح، والمتشككين تجاه التغير المناخي، والمتشددين الدينيين، والقوميين المتشددين.
تأمين الحضور
وأمام الأهمية الخاصة للمنتدى هذا العام، نشر الجيش السويسري 5000 جندي في دافوس، جنوب شرق سويسرا، لتوفير الأمن لنحو 3000 مشارك في الفعالية التي تعقد في الفترة من 16 إلى 20 يناير/ كانون الثاني.
وأشارت وزارة الدفاع السويسرية، قبل عشرة أيام من انطلاق نسخة عام 2023، إلى أن الجيش بدأ العمل في منشآت أمنية مثل كل عام، لدعم السلطات المدنية في كانتون غراوبوندن استعدادًا للحدث الكبير.
ويجذب الحدث رفيع المستوى رجال الأعمال والسياسيين من جميع أنحاء العالم، إلى جانب عدد كبير من الأكاديميين وقادة المجتمع.
وشارك في آخر نسخة من دافوس تقام في المدينة السويسرية شخصيات أمثال مبعوث المناخ الأمريكي جون كيري وقطب مايكروسوفت بيل غيتس والرئيس الرواندي بول كاغامي، والرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب.
ويرجح أن تعقد بعض الاحتجاجات ضد الحدث، كما في الماضي، حيث تلقت بلدة دافوس طلبين للحصول على إذن للتظاهر ضد المنتدى الاقتصادي العالمي.
متى بدأ منتدى دافوس؟
في عام 1971 عقد الاجتماع الأول للمنتدى الاقتصادي العالمي في المدينة السويسرية بجبال الألب لمناقشة التحديات التي تواجه العالم.
لماذا يقام المنتدى في دافوس؟
على ارتفاع 1560 مترًا، وعبر الشوارع المكسوة بالجليد وفي ظل رحلة طويلة بالقطار إلى أقرب مطار، لا يمكن اعتبار دافوس المكان الأمثل لعقد مؤتمر دولي كبير. لكن مؤسس المنتدى الاقتصادي العالمي، البروفيسور كلاوس شواب، اختار دافوس في الأصل كمكان هادئ بعيدًا عن التحديات اليومية لإدارة الأعمال التجارية.
من يذهب إلى دافوس؟
يتوجه إلى دافوس قادة من قطاع الأعمال والحكومات والمجتمع المدني والجماعات الدينية ووسائل الإعلام والأوساط الأكاديمية. يجتمعون سويا في أسبوع من الاجتماعات تتناول كل شيء بدءا من تغير المناخ إلى العملات المشفرة.
وتضم قائمة الدعوات حوالي 2000 إلى 3000 شخصية، لكن رغبة الكثيرين في حضور الفعاليات التي تقام على هامش المنتدى، يؤدى إلى زيادة عدد المشاركين إلى حوالي 10000 شخص.
عقب انتهاء دافوس، يعمل موظفو المنتدى على مدار العام على مشاريع تشمل تقرير الفجوة بين الجنسين العالمي، الذي يحدد حجم العقبات التي تواجهها النساء في جميع أنحاء العالم، ومنهج العمل المناخي، الذي يهدف إلى إزالة الكربون من الاقتصاد العالمي.
ويشمل المنتدى مجموعة من حلقات النقاش وتجمعات وفعاليات غير رسمية على مدى أسبوع تحت شعار "التعاون في عالم منقسم"، حيث أكد كلاوس شواب مؤسس المنتدى ورئيسه التنفيذي أنه "ينبغي أن يساعد دافوس في تغيير هذه العقلية".
وبينما سيكون غياب الوفد الروسي واضحا، فقد أشاد المنظمون بإقبال قياسي من حيث عدد المشاركين وتنوعهم مع توقعات بمشاركة صينية "رفيعة المستوى".
وسيحضر 52 رئيس دولة وحكومة إلى جانب 56 وزيرا للمالية و19 محافظا للبنوك المركزية و30 وزيرا للتجارة و35 وزيرا للخارجية. وسيكون قادة الأمم المتحدة وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية من بين 39 من رؤساء الوكالات الدولية.
كما يستضيف منتجع التزلج الراقي أكبر عدد على الإطلاق من مسؤولي الشركات إذ سيشارك في فعاليات المنتدى ما يزيد على 600 مدير تنفيذي من بين 1500 من قادة الأعمال، منهم أكبر عدد على الإطلاق من المديرات التنفيذيات.
ومن المقرر أن تركز المناقشات على التحديات القصيرة المدى مثل كيفية تجنب مخاطر حدوث ركود عالمي في عام 2023 وكيفية ضمان عدم تراجع الجهود العالمية للتصدي لتغير المناخ بسبب أزمة الطاقة التي تفاقمت بسبب حرب أوكرانيا والعقوبات على روسيا.
وقال المنظمون إن أوكرانيا، التي هيمنت على جلسات المنتدى العام الماضي، سترسل وفدا آخر رفيع المستوى وستكون هناك عدة جلسات تتعلق بالحرب.
ماذا يوجد على أجندة 2023؟
موضوع الاجتماع هو "التعاون في عالم منقسم" - إيماءة متفائلة تجاه التوترات الجيوسياسية المتزايدة التي تمتد من أوكرانيا إلى الصين. تحت هذا الموضوع، سيدور برنامج من حوالي 500 فعالية في كل جانب من جوانب الاقتصاد العالمي، من احتمالية حدوث ركود عالمي إلى أحدث التطورات في مجال التكنولوجيا الخضراء.
وقبل انعقاد مؤتمر دافوس، نشر تقرير المخاطر العالمية للمنتدى، بالتعاون مع مؤسسة زيورخ، ويمهد الطريق للاجتماع من خلال التحقيق في التهديدات الرئيسية في الأفق.
تُشكل أزمة تكلفة المعيشة الناجمة عن التضخم المتفاقم بسبب الأزمة الأوكرانية والتعافي بعد الوباء، الخطر العالمي الأول في 2024 و2025.
ووفق تقرير أعده المنتدى الاقتصادي العالمي، فإن هذا الخطر الذي يتسبب بحدوث توترات شديدة في عدة مناطق من العالم بدفع الملايين من الناس إلى هوة الفقر المدقع مع تأجيج التوترات المجتمعية، يتجاوز مخاطر الكوارث الطبيعية والأحداث المناخية القاسية، أو حتى النزاعات.
وذكر بيان للمنتدى الاقتصادي العالمي أصدره بمناسبة نشر تقرير حول المخاطر العالمية لعام 2023 شمل استبيان 1200 خبير وصانع قرار، أن "النزاعات والتوترات الجيو-اقتصادية أدت إلى سلسلة من المخاطر العالمية الشديدة الترابط".
وتشمل هذه المخاطر "الضغط على إمدادات الطاقة والغذاء المتوقع أن يستمر خلال العامين المقبلين، والارتفاع الحاد في أزمة تكلفة المعيشة وتكلفة الديون" بسبب ارتفاع أسعار الطاقة وأسعار الفائدة، بحسب البيان.
وأضاف البيان أن هذه المخاطر "تلحق ضررا بجهود مكافحة تهديدات أخرى طويلة الأمد وخاصة تغير المناخ" وانهيار التنوع البيولوجي، وذلك قبل خمسة أيام من بدء الاجتماع السنوي للمنتدى الاقتصادي العالمي المنعقد في دافوس بين 16 و 20 يناير/كانون الثاني 2023.
ويدعو التقرير الذي أُعد بالتعاون مع شركة مارش ماكلينان، المتخصصة بتقديم المشورة في إدارة المخاطر، وشركة زوريخ للتأمين، إلى اتخاذ إجراءات تعاون عالمية عاجلة بهدف وضع نوافذ عمل "تتقلص بسرعة".
وأوضح البيان "أن الوباء العالمي والحرب في أوروبا أديا إلى وضع أزمات الطاقة والتضخم والغذاء والأمن في المقام الأول" مشيراً كذلك إلى خطر "استقطاب المجتمعات عبر التضليل والمعلومات الخاطئة" أو حتى "الحروب الجيو-اقتصادية".
وأكد البيان على أنه "ما لم يبدأ العالم في التعاون بشكل فعال بشأن الاعتدال (لتغير المناخ) والتكيف المناخي، فإن السنوات العشر القادمة ستؤدي إلى مزيد من الاحتباس الحراري والانهيار البيئي".
ماذا فعل دافوس للعالم؟
بصفته تجمعًا للنخبة العالمية، غالبًا ما كان دافوس جاذبا للاحتجاجات حول كل شيء بدءًا من العولمة السريعة في التسعينيات إلى التغير المناخي الجامح في هذا القرن.
وبرغم ذلك، يمكن للحدث أن يعرض لمنتقديه بعض الإنجازات القوية. كالعمل كوسيط للسلام، حيث أسهم في منع وقوع حرب بين اليونان وتركيا بتوقيع إعلان دافوس عام 1988. وفي دافوس أيضًا تم إطلاق تحالف اللقاحات غافي عام 2000، والذي الآن في تطعيم ما يقرب من نصف سكان العالم، ويلعب دورًا رئيسيًا في إيصال لقاحات كوفيد إلى البلدان المعرضة للخطر.