الواضح جليا أن التحرك الأمريكي اللافت مرتبط برغبة ترامب في الحصول على دعم الصوت اليهودي في الانتخابات الرئاسية المقبلة
تدرك الإدارة الأمريكية أن خطواتها غير المسبوقة في الشرق الأوسط بدعم إسرائيل، ومنحها شيكا على بياض بشأن ما طلبته في القدس والجولان، وحصلت عليه سيكون مقدمة لمواقف أمريكية أخرى تتعلق بشكل التسوية المقبلة في الإقليم، والتي ستركز على بعض الأولويات الاقتصادية والاستثمارية بديلا عن الأولويات السياسية والاستراتيجية، وستكون البداية للوصول بعدها إلى صيغة سياسية جديدة تنتهي بطرح فكرة الكيان الفلسطيني منقوص الصلاحيات، والمهام أو من خلال صيغة جديدة على غرار الكونفدرالية.
إن المقاربة الأمريكية الراهنة غير مقنعة وغير مطمئنة، فالدول العربية اختبرت المواقف الأمريكية عندما اعترف الرئيس ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل؛ حيث كانت أمام الرئيس الأمريكي فرصة ليكون أكثر منطقية وعقلانية، لو أنه أعلن في الوقت ذاته أن القدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية إلا أن ذلك لم يحصل.الواضح جليا أن التحرك الأمريكي اللافت مرتبط برغبة ترامب في الحصول على دعم الصوت اليهودي في الانتخابات الرئاسية المقبلة، والمقرر أن تجرى في 2020 مما سيعطي لقاعدته الانتخابية المتماسكة وجودا يهوديا بارزاً، كما يفسر الأمر في مجمله بأن الولايات المتحدة لن تتراجع في مسار دعمها لإسرائيل بصرف النظر عن تشكيل أي حكومة جديدة في تل أبيب، وفي ظل الاستجابة المباشرة للضغوطات التي مارستها منظمة "إيباك" في الفترة الأخيرة على نواب الكونجرس من الجمهوريين لحسم ملف الاعتراف الأمريكي بالسيادة الإسرائيلية على الجولان خلال الولاية الراهنة للرئيس ترامب، ولا يمكن استبعاد رغبة ترامب في تحقيق إنجازات حاسمة -وفقا لرؤيته- تتعلق باتجاهات ومسارات التسوية العربية الإسرائيلية انطلاقا من انحيازه الكامل للجانب الإسرائيلي، وهو ما سيجعله يتحرك وفقا لرؤية أمريكية انفرادية مستبعدا إتمام أية تفاهمات مع الأطراف العربية المعنية حال رفض مشروع التسوية المرتقب.
إضافة لهذا سعت الإدارة الأمريكية للتعامل مع الحكومة الإسرائيلية الراهنة في ظل المتغيرات الجديدة التي فرضتها الإدارة، من خلال توجيه الدعم غير المحدود لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بصورة واضحة، مع ترجيح فرص وخيارات تقدمه واستمراره في الحكم، بصرف النظر عن شكل وإطار الائتلاف الذي سيحكم إسرائيل بعد الانتخابات المقبلة، والاستجابة التدريجية لمطالب رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو بزيادة المساعدات الأمريكية.
والواقع أن مجمل الموقف الأمريكي بشأن الاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على الجولان سيؤدي إلى تداعيات شديدة السلبية على مواقف الأطراف المعنية بالمنطقة مباشرة، من خلال دفع الجانب الفلسطيني إلى مزيد من التشدد والرفض المسبق للخطة الأمريكية المقترحة للتسوية، على اعتبار أن الإدارة الأمريكية الراهنة باتت طرفا غير نزيه بل منحازا للجانب الإسرائيلي، حتى مع احتمالات توسيع نطاق الوساطة الدولية لتشمل أطرافا أخرى مثل روسيا أو الاتحاد الأوروبي.
وفي التقدير المتوقع ستعطي التوجهات الأمريكية الراهنة الفرصة للحكومة الإسرائيلية لتنفيذ مخططاتها ليس فقط في الجولان وإنما في الضفة الغربية، من خلال تنفيذ الإجراءات الأمنية والاستراتيجية في منطقة الحدود الإسرائيلية السورية باتجاه منطقة الجولان/القنيطرة، والتي لن تقتصر على مشروع بناء السور الإلكتروني لإجراءات أكثر أمانا وحضورا، والتخطيط لنصب نظام دفاعي صاروخي جديد لم يحدد بعد، والإعلان الجديد عن بناء وحدات سكنية في منطقة التماس في الجولان وفقا لخطة مجلس المستوطنات القومي في الجولان استثمارا لما تم أمريكيا، وتطوير خطة القدس 2050، والتي ستشمل مناطق الأغوار وصولا إلى منطقة هضبة الجولان، في ظل الأهمية الاستراتيجية التي تمثلها الهضبة لإسرائيل.
ولهذا ومن الآن فصاعدا ستركز الأفكار الأمريكية التي سيتضمنها المشروع الأمريكي على البعد الإقليمي وليس الثنائي في استئناف الاتصالات العربية الإسرائيلية، وهو ما يدمج المفاوضات المرحلية بالنهائية، وحسم مسار التفاوض بصورة نهائية، ويحقق المصلحة المباشرة مع تحديد إجراءات كاملة لمواجهة الإرهاب ضمن أمن إسرائيل على المدى البعيد، ورفض حق العودة والضغط على الجانبين الفلسطيني أولا والإسرائيلي بصورة لاحقة، في ظل التأكيد على وجود أطراف إقليمية ساعية لدعم الجانب الأمريكي، وهو ما اتضح في تحرك مصر إزاء برنامج المصالحة رغم صعوبته الحقيقية وتعقد ملفاته، والسعودية التي اتجهت لطرح سلسلة من المشروعات الإقليمية في البحر الأحمر.
كما سيتركز التصور الأمريكي الجديد على إنشاء دولة فلسطينية دون إخلاء المستوطنات في الضفة الغربية في هذه المرحلة، وتبادل الأراضي ولكن ليس على حدود 1967، ووجود الجيش الإسرائيلي على حدود نهر الأردن وبقاء القدس عاصمة موحدة، واستبعادها في الوقت الراهن من أي مفاوضات والتعامل معها على أساس ديني فقط، مع تلبية المطالب الإسرائيلية الأمنية، بما يفتح الباب أمام مفاوضات إقليمية كاملة، وعلى أن تكون الدولة الفلسطينية ضمن حدود 4 يونيو عام 1967، وعلى ألا يتم تهجير للمواطنين العرب من الداخل الفلسطيني ممن يحملون الجنسية الإسرائيلية .
في هذا الإطار يلاحظ على الطرح الأمريكي تعمد تسريب بعض الأفكار التي سبق أن طرحت من قبل في الفترة الأخيرة، وعدم وجود تقبل فلسطيني مبدئي لما يطرح من قبل الجانب الأمريكي، خاصة أن ضغوطا أمريكية كبيرة تمارس في الوقت الراهن للقبول بتقديم تنازلات، والبدء في التفاوض على أرض الواقع وتركيز الطرح الأمريكي على الخيار الإقليمي، وتوسيع دائرة التفاوض العربي الإسرائيلي، وعدم قصره على الجانب الفلسطيني فقط، وترحيل أغلب القضايا الشائكة ومنها تحديد مستقبل القدس وحدود الدولة وصلاحياتها ومهامها إلى مرحلة أخرى تحتاج بالفعل إلى ضوابط متعددة متفق عليها طوال مراحل تنفيذ الاتفاق، وكذلك إعادة تدوير بعض الأفكار الخاصة بإقامة حكم ذاتي في قطاع غزة والضفة الغربية، وإنشاء صندوق مالي، لتعويض اللاجئين الفلسطينيين الذين تم تهجيرهم من أراضيهم عام 1948، وإقامة دولة فلسطينية في منطقة تزيد مساحتها عن ضعف مساحة المناطق "أ وب"، الخاضعة لسيطرة السلطة الفلسطينية، وأن يتم تبادل للأراضي بين إسرائيل والفلسطينيين، فيما يتعلق بسائر المساحة المتبقية من الضفة الغربية، والتي ستضمها إسرائيل وتقديم استثمارات بقيمة عشرات المليارات من الدولارات للفلسطينيين ودول أخرى في المنطقة، تشمل حوالي 25 مليار دولار للضفة الغربية وغزة، و40 مليار دولار وتشمل مصر والأردن ولبنان، وتصل إجمالي الاستثمارات المقررة إلى 65 مليار دولار.
إذاً يمكن القول إن هناك مصالح أمريكية مباشرة ستدفع بضرورة الانتباه إلى التحرك لتنفيذ تسوية عربية إسرائيلية، بناء على استراتيجية الأمر الواقع، مع إعادة تدوير بعض الأفكار الأمريكية في هذا السياق.
ومن المبكر الحكم على ما يمكن أن تنجح فيه الإدارة الأمريكية للضغط على الجانب الفلسطيني للقبول بالأفكار الأمريكية الحالية، خاصة أنها تتم في دوائر محددة وتغفل عن الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة، ومن المؤكد أن تتوافق الحكومة الإسرائيلية وائتلافها الحاكم المتوقع عقب الانتخابات مع طرح الإدارة الأمريكية الحالية، وفي إطار رفض حل الدولتين والاستعداد بقبول دولة فلسطينية ذات سيادة محدودة بشرط أن تبقى الضفة الغربية تحت السيطرة الأمنية الإسرائيلية.
وفي المحصلة فإن المقاربة الأمريكية الراهنة غير مقنعة وغير مطمئنة، فالدول العربية اختبرت المواقف الأمريكية عندما اعترف الرئيس ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل؛ حيث كانت أمام الرئيس الأمريكي فرصة ليكون أكثر منطقية وعقلانية، لو أنه أعلن في الوقت ذاته أن القدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية، إلا أن ذلك لم يحصل، بل على العكس منح الحكومة الإسرائيلية الفرصة في الاستثمار في الواقع الجديد، خاصة أن الخطة الأمريكية ستميل لصالح إسرائيل وأن تستخدم لغة غير قانونية، وليس اللغة المتفق عليها دولياً والمرتبطة بمقترحات السلام السابقة، ولن تتضمن رؤية أو تصورا خاصا بحل الدولتين أو عودة اللاجئين ورفض الاستيطان.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة