أمريكا اللاتينية تنزف ذهباً.. تجارة مربحة أم تهديد وجودي؟

يعزز استمرار الطلب العالمي على الذهب، عمليات التعدين الأهلي في أمريكا اللاتينية.
في مدينة تروخيو شمال بيرو، خرج مئات من عمال المناجم إلى الشوارع احتجاجًا على حظر حكومي مؤقت للتعدين في منطقة باتاس، حيث قُتل 13 حارس أمن مؤخرًا على يد عصابة مسلحة. ورغم العنف المتزايد، يطالب السكان بالعودة إلى عملهم، مؤكدين أنهم ليسوا مجرمين بل عمالاً يسعون للرزق.
ووفقًا لتقرير نشرته مجلة "الإيكونوميست"، تعد بيرو أكبر منتج للذهب في أمريكا اللاتينية، لكنها الآن في قلب أزمة متفاقمة ناتجة عن تفشي التعدين الأهلي (غير القانوني) والعنف المرتبط به. فقد قُتل 39 من موظفي شركة بوديروسا للتعدين خلال ثلاث سنوات في باتاس، وعُثر على مقابر جماعية، وتعرض مكتب المدعي العام لتفجير.
السبب الرئيسي
السبب الرئيسي لهذا التصاعد في العنف هو ارتفاع أسعار الذهب عالميًا (وصلت إلى 3500 دولار للأونصة)، إلى جانب تراجع أرباح تجارة المخدرات التقليدية. فقد اتجهت العصابات إلى الذهب كمصدر دخل بديل، يفوق في أحيان كثيرة أرباح الكوكايين، خاصة بعد تضاعف إنتاج الكوكا منذ 2010 في دول مثل بوليفيا وكولومبيا وبيرو.
ويتقاطع التعدين غير القانوني مع تجارة المخدرات في البنية التحتية، إذ تستغل العصابات مدارج الطائرات والمخيمات لخدمة كلا النشاطين، وتقوم بغسل أموالها من خلال بيع الذهب كما لو أنه قانوني. يُقدّر أن 44% من صادرات الذهب البيروفية في عام 2024 (نحو 4.8 مليار دولار) جاءت من مصادر غير قانونية، وفي البرازيل، جنَت العصابات أكثر من 3 مليارات دولار من الذهب عام 2022 -أكثر من تجارة الكوكايين.
وهذا النشاط الإجرامي زعزع استقرار المنطقة بأكملها. ففي كولومبيا، شهد منجم "بوريتيكا" صراعًا بين شركة صينية وعصابة "عشيرة الخليج" التي سرقت ذهبًا بقيمة 200 مليون دولار. وفي بوليفار، قتلت العصابات أكثر من 20 عنصرًا من الجيش والشرطة بعد حملة حكومية ضدهم. وفي الإكوادور، قُتل 11 جنديًا أثناء إغلاق منجم غير قانوني.
وتجسد باتاس هذه الفوضى، إذ استولت العصابات على الأنفاق خلال جائحة كوفيد-19 وحوّلتها إلى مواقع تعدين منظم تحت حماية مسلحة. وحتى إرسال الجيش في فبراير/شباط 2024 لم يوقف العنف، إذ لا تزال عدة عصابات تتنافس على السيطرة.
كارثة بيئية
على الصعيد البيئي، فإن الوضع كارثي، إذ إن أكثر من 2 مليون هكتار من غابات الأمازون دُمّر لاستخراج الذهب، حتى في محميات طبيعية، بينما تسمم الزئبق المستخدم في التعدين الأنهار. وفي البرازيل، يحاول الرئيس لولا دا سيلفا كبح أنشطة عمال المناجم غير القانونيين، لكن كثيرين فرّوا إلى فنزويلا حيث يسمح لهم الجيش بالعمل مقابل الولاء للنظام.
وتمثل فنزويلا حالة متطرفة، حيث يمنح نيكولاس مادورو الجيش سلطة التعاون مع عصابات التعدين لدعم سلطته. وفي بوليفيا، تروّج الحكومة لما يُعرف بـ"التعاونيات"، وهي كيانات قانونية من الناحية الشكلية، لكنها في الواقع تغذي السوق السوداء وتخالف القوانين البيئية. كما اشترى البنك المركزي كميات هائلة من الذهب -يُشتبه أن جزءًا منها غير قانوني- في محاولة لدعم احتياطاته.
أما في بيرو، فقد فشل برنامج "Reinfo"، الذي أُطلق في 2012 لتنظيم قطاع التعدين غير الرسمي. فمن بين مئات الآلاف من المسجلين، حصل أقل من 2.3% على تراخيص. بل إن العصابات باتت تستخدم البرنامج لغسل الذهب عبر تزوير أو شراء وثائق تسجيل. ويصف أكاديمي بيروفي الوضع بأنه "فشل كامل"، فيما لا تزال الحكومة تمدد البرنامج تحت ضغط الاحتجاجات.
ومع اقتراب الموعد النهائي في 30 يونيو/حزيران 2025، من المحتمل تمديده مجددًا، رغم الاشتباه في ارتباط بعض منظمي الاحتجاجات بالعصابات، ودعم المافيا من داخل الكونغرس.
ويحذر وزير المالية البيروفي السابق من أن الوضع الحالي يشبه ثمانينيات القرن الماضي، عندما سيطرت جماعات مسلحة على أجزاء كبيرة من البلاد. ولا تزال الحكومة تنفق أضعافًا على مكافحة المخدرات مقارنة بمكافحة التعدين غير القانوني (73 مليونا مقابل 17.5 مليون دولار فقط).
ووفقا لتحليل الإيكونوميست، فالحل لا يكمن فقط في الرد العسكري، بل في تنظيم فعّال، واستثمار في المجتمعات، وتعاون إقليمي حقيقي. وطالما استمر الطلب العالمي على الذهب، ستبقى أمريكا اللاتينية تنزف ذهبها، وتفقد أمنها ومستقبلها.
aXA6IDIxNi43My4yMTYuMjAzIA==
جزيرة ام اند امز