الذهب يوجه رسائل خطيرة للاقتصاد العالمي.. صعود دراماتيكي وسط الضبابية

قال تقرير نشره موقع "ناتكسيس" المتخصص في أخبار الشركات والاستثمار المصرفي (Natixis CIB) إن أسعار الذهب قفزت الشهر الماضي إلى أعلى مستوى لها على الإطلاق، لتصل إلى 3500 دولار أمريكي للأونصة.
وفي ظل سياسة اقتصادية أمريكية غير متوقعة، اتجه المستثمرون بشكل جماعي إلى هذا الأصل التقليدي الآمن.
وفي ندوة عبر الإنترنت عقدتها إدارة الموقع، ناقش كل من برنارد دحداح، محلل المعادن والتعدين، وآدم هيندلي، رئيس مجموعة صناعة المعادن والتعدين، وبريانكا آير، رئيسة مبيعات وهيكلة السلع في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، المحركات وراء هذا الارتفاع في الأسعار، وتأثيراته على الأسواق العالمية، والمسار المستقبلي.
وفي التقرير، اعتبر المحللون أن الذهب الذي برز كمؤشر على القلق الاقتصادي العالمي وتغير موازين القوى لا يزال في مسار تصاعدي، مدفوعًا بالتغيرات في الديناميكيات العالمية، واتجاهات الابتعاد عن الدولار، والاضطرابات السياسية التي تعيد تشكيل الترابطات التقليدية في الأسواق.
من التحالفات المتغيرة بين الصين وروسيا، إلى الضغوط التضخمية والاضطرابات السياسية في الولايات المتحدة، تتشابك القوى التي تؤثر في سوق الذهب بعمق. وبالنسبة للدول التي تستورد الذهب، والصناعات التي تتأثر بتقلب أسعاره، فإن هذا المشهد المتغير يحمل تداعيات خطيرة.
الحمائية
وكانت الشرارة التي أطلقت صعود الذهب الدراماتيكي هي موجة جديدة من السياسات الحمائية الأمريكية. فقد أعلن دونالد ترامب عن تعريفات جمركية شاملة على الصعيد العالمي، بما في ذلك تعريفات بنسبة 145% على السلع الصينية، مما أثار حالة من الذعر في الأسواق. وفي الوقت نفسه، شن هجومًا على رئيس الاحتياطي الفيدرالي، جيروم باول، مما قوض ثقة المستثمرين.
وفي ذروة هذه الضبابية، عكست أسعار الذهب سيناريوهات أسوأ الاحتمالات فوق المخاوف القائمة بشأن التضخم وتباطؤ النمو العالمي. ورداً على ذلك، اندفع المستثمرون إلى شراء الذهب الفعلي، وبلغت كمية الذهب في مستودعات COMEX مستوى يكفي لتغطية استهلاك الولايات المتحدة لخمس سنوات.
ومع تأجيل تنفيذ التعريفات، تراجعت أسعار الذهب بنسبة 6%. وقد أشارت تدفقات الخروج من المخزونات الأمريكية إلى عودة الطلب الطبيعي في مناطق أخرى، غير أن هذه الحادثة عززت مكانة الذهب كأصل يُلجأ إليه في أوقات التقلبات السياسية.
الذهب والسندات الأمريكية يفترقان
من ناحية أخرى، كانت هناك، تقليديًا، علاقة عكسية بين أسعار الذهب وعوائد سندات الخزانة الأمريكية، حيث يُنظر إلى كليهما كأصول آمنة. لكن أسعار الذهب استمرت في الارتفاع رغم زيادة العوائد، مما يشير إلى انفصال عن الأعراف التاريخية. فما الذي تغير؟
في اليوم الذي بلغ فيه سعر الذهب 3500 دولار، شهدت صناديق أسواق المال الأمريكية تدفقات خارجة بلغت 125 مليار دولار، وهي الأكبر منذ الأزمة المالية عام 2008، في ظل تزايد القلق بشأن المسار الاقتصادي الأمريكي. وأصبح يُنظر إلى الذهب على أنه الملاذ الآمن الوحيد، حيث تغيّر الأجندة الأمريكية غير المتوقعة الترابطات التقليدية في السوق.
وقد عززت التحولات الجيوسياسية هذا الاتجاه. فالعقوبات المفروضة على روسيا بعد حرب أوكرانيا دفعت العديد من البنوك المركزية، خصوصًا تلك الأقل ارتباطًا بالغرب، إلى تسريع التخلص من الدولار في احتياطياتها الأجنبية، والاتجاه بدلاً من ذلك إلى الذهب. بين يونيو/حزيران 2013 ويونيو/حزيران 2022، أضافت البنوك المركزية في المتوسط 125 طنًا من الذهب كل ربع سنة. ومنذ ذلك الحين، تضاعف هذا المعدل إلى أكثر من 260 طنًا.
الطلب الاستراتيجي للصين
ووفقا للمحللين، فقد لعبت الصين أيضًا دورًا حاسمًا في دعم أسعار الذهب. ولا يزال الطلب الاستهلاكي والتجزئة قويًا، وبلغت العلاوات المحلية أعلى مستوى لها على الإطلاق عند 135 دولارًا للأونصة، قبل أن تستقر حاليًا عند 62 دولارًا، وهو لا يزال أعلى بكثير من المتوسط التاريخي البالغ 5 دولارات.
وعند ذروة أسعار الذهب، سجلت صناديق الاستثمار المتداولة المدعومة فعليًا بالذهب في الصين تدفقات داخلية بحوالي 5 مليارات يوان، أي ما يعادل 40 ضعفًا من المتوسط الشهري المعتاد في السنوات الأخيرة.
وستكون تصرفات الصين حاسمة في تحديد مسار الذهب، حيث يؤدي الطلب القوي إلى استمرار ارتفاع الأسعار. كما تم السماح لشركات التأمين الصينية بالمشاركة في سوق الذهب، وقد بدأت أربع شركات كبرى بالفعل بالتداول في بورصة شنغهاي للذهب.
وإذا قررت الحكومة الصينية تصعيد التوترات عبر بيع سندات الخزانة الأمريكية، فقد يؤدي ذلك إلى تسريع تدفقات الخروج من الدولار والاتجاه نحو الذهب. ومع التأثير الكبير للطلب الصيني والموقع المالي الصيني، تظل تحركات بكين حاسمة في تشكيل مسار المعدن.
الأسواق تتفاعل
أما الأسواق العالمية، فقد بدأت تتفاعل مع الواقع الجديد. وبدأت الدول والقطاعات المرتبطة بالذهب في تعديل توقعاتها في ظل ارتفاع الأسعار. وكانت الهند، إحدى أكبر مستوردي الذهب في العالم، من أكثر المتضررين. فالطلب هناك شديد الحساسية للأسعار، وقد أدى الارتفاع الأخير إلى إخراج العديد من المشترين الأفراد من السوق، تاركًا المستثمرين والمشترين الكبار فقط.
ومع أن العوامل الموسمية تلعب دورًا، خصوصًا في مواسم الأعياد والزيجات، فإن الصورة العامة لعام 2025 هي انخفاض في الطلب.
في الوقت ذاته، يعيد قطاع تعدين الذهب هيكلة نفسه، مع سعي المنتجين للاستفادة من الأسعار المرتفعة. وبينما كانوا يتجنبون التحوط سابقًا للحصول على أقصى استفادة من الأسعار المتصاعدة، بدأ العديد منهم منذ منتصف 2024 في استخدام استراتيجيات التحوط النشط لتأمين جزء من العائدات في ظل التقلبات المتزايدة.
كما حفّزت الأسعار المرتفعة شهية الاستحواذات. ففي عامي 2023 و2024، شكّلت صفقات الاندماج والاستحواذ في قطاع تعدين الذهب ما بين 40-50% من إجمالي قيمة الصفقات في قطاع المعادن والتعدين بأكمله.
ومع التقييمات العالية، اتجهت الشركات إلى صفقات تعتمد على الأسهم أكثر من النقد. وبينما كان المستثمرون يفضلون الأرباح الموزعة في السابق، عاد الاهتمام بقصص النمو في الأسواق، كما يتجلى في استحواذ Northern Star على شركة De Grey بقيمة 5 مليارات دولار أسترالي.
أفق قريب
ورغم بعض التراجع منذ تخفيف ترامب لأجندته التجارية، الا أنه من المتوقع أن تستمر أسعار الذهب في النمو. ويتوقع محللو Natixis CIB أن يبلغ متوسط سعر الذهب 3200 دولار للأونصة في عام 2025، و3360 دولارًا في عام 2026، مع احتمالية ارتفاع الأسعار نتيجة خفض أسعار الفائدة بنهاية هذا العام.
وعلى المدى الطويل، قد تعود الأسعار إلى مستوى 3500 دولار – بل وقد تتجاوزه لتصل إلى 4000 دولار، في ظل استمرار البنوك المركزية في الشراء التاريخي، وبقاء الطلب الصيني قويًا، وعدم استقرار السياسات المالية الأمريكية.
بالنسبة للمستثمرين والمشاركين في السوق، يتطلب هذا المشهد الذهبي الجديد استراتيجيات جديدة. فالذهب لم يعد فقط ملاذًا آمنًا، بل يعكس أيضًا التحولات الجذرية في توازن القوى الاقتصادية العالمية.
صناديق الذهب الأمريكية
وشهدت صناديق الاستثمار المتداولة في الذهب (Gold ETFs) في الولايات المتحدة أداءً قويًا منذ بداية عام 2025، مدعومة بارتفاع أسعار الذهب، وزيادة الطلب على الأصول الآمنة، وتنامي المخاوف الجيوسياسية والاقتصادية حول العالم. وقد تجاوزت العوائد في بعض الصناديق الرئيسية حاجز 20%، مما يجعل الذهب أحد أبرز الأصول أداءً في العام الجاري.
وتصدر صندوق SPDR Gold Shares (GLD) المشهد، بعائد بلغ 23.07% منذ بداية 2025 وحتى مطلع مايو/أيار. ويُعد GLD أكبر صندوق ذهب في العالم من حيث الأصول، حيث يتتبع سعر الذهب الفوري بدقة. كما شهد iShares Gold Trust (IAU)، منافسه الرئيسي، أداءً مشابهًا، بعائد بلغ 23.15%، مما يؤكد الاتجاه الصعودي القوي للذهب خلال الشهور الأربعة الأولى من العام.
ومن جهة أخرى، برزت صناديق الذهب المادي مثل abrdn Physical Gold Shares (SGOL) وSprott Physical Gold Trust (PHYS) كخيارات مفضلة للمستثمرين الباحثين عن ملكية فعلية للذهب المخزن في خزائن محمية، سواء في الولايات المتحدة أو سويسرا.
ولم تكن الصناديق المتعقبة لسعر الذهب وحدها التي استفادت من الارتفاع، بل تجاوزتها صناديق شركات تعدين الذهب بأدائها اللافت. فقد حقق صندوق Sprott Gold Miners ETF (SGDM) عائدًا وصل إلى 35.6%، فيما بلغ عائد صندوق iShares MSCI Global Gold Miners ETF (RING) نحو 35.5%، وVanEck Gold Miners ETF (GDX) قرابة 34.4%، ما يعكس انتعاشًا في ربحية شركات التعدين تزامنًا مع صعود أسعار الذهب وتراجع التكاليف التشغيلية.
aXA6IDE4LjIxOC4xMDguMTg0IA== جزيرة ام اند امز